الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ترامب والأصولية الإنجيلية

ترامب والأصولية الإنجيلية
24 سبتمبر 2020 00:58

منذ بدايات الألفية الثالثة، بدأت تجليات الأصولية الدينية في الولايات المتحدة الأميركية تتصاعد. حدث ذلك مع دخول إدارة بوش الابن عام 2000 إلى البيت الأبيض، وإن كانت قصة تلك الأصولية ضاربة جذورها في أميركا منذ تأسيسها في القرن الثامن عشر، والذي يليه. 
على أن العقدين الماضيين تحديداً قد شهدا، بنوع خاص، تجليات مثيرة للانتباه، بلغت حد الوعد من المرشح الرئاسي «الجمهوري» عام 2016، والرئيس لاحقاً، دونالد ترامب، بأن «المسيحية ستحظى بالسلطة أخيراً»! وهو وعد بعيد عن أبجديات الحياة والدستور الأميركي، حيث هناك فصل تام بين الدين والدولة. غير أن ترامب كان يغازل قاعدته الدينية الأميركية العريضة، تلك التي يقدرها البعض بنحو ثمانين مليون ناخب، من «الواسب»، أي الأميركيين البيض البروتستانت الأنجلوساكسون. 
والشاهد أنه خلال سنوات إدارة الرئيس ترامب الأربع، من 2016 إلى 2020، بدا وكأن الرجل هو المؤتمن على مقدرات ومقررات اليمين الأصولي الأميركي في طبعته المعاصرة، ولهذا أضحت علامة الاستفهام: «هل سيقود هذا الفريق الدوجمائي ترامب لأربع سنوات أخرى جديدة في البيت الأبيض، على الرغم من كافة العقبات والإشكاليات التي ستواجهه على الطريق عائداً أو باقياً في البيت الأبيض»؟!

في تقرير لها أوائل أغسطس الماضي، وضعتنا صحيفة «نيويورك تايمز» أمام مشهد يحمل تناقضات جذرية، ومحيّرة، فالعلاقة بين ترامب الذي لا دالة له على الإيمان والقيم المسيحية العميقة، والذي طلّق مرتين، وتزوج ثلاث مرات، لا يمكن أن تستقيم مع حال وأفكار اليمين المسيحي الإنجيلي، الذي يؤمن بقيم وأفكار الأسرة وأهميتها وترابطها، ويعادي الانحلال الجنسي، ويقف في مواجهة الإجهاض والشذوذ، ويقدر المرء في هذه القيم الجيران كما نفسه، ومن هنا السؤال: ما السبب إذن وراء هذا المشهد؟ مشهد التحالف رغم الاختلافات!
تقول الصحيفة الأميركية، إن هذا التناقض دام 4 سنوات، وقد وقف التيار اليميني المسيحي وراء ترامب، في كافة القرارات التي اتخذها ومنها إغلاقه أبواب أميركا في وجه اللاجئين المسلمين، وأيضاً عندما فرّق بين الأطفال وآبائهم على الحدود، ولما أطلق الشتائم النابية على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك حين تلفظ بالمغالطات وكأنها حقائق، وعندما كاد يعزل من منصبه، ففي كل هذه المواقف كانوا جميعاً وراءه... فهل تنكر هؤلاء لمنظومتهم الدينية والأخلاقية، وما الذي جرى إذن؟ 

هواجس «الرجل الأبيض»
في واقع الأمر لقد دعموه لأنه كذلك، وليس لأنهم تراجعوا عن ما يؤمنون به، دعموه لمخاوفهم العميقة من تغير سطوة الرجل الأبيض، الذي اعتاد التردد على الكنائس صباح الأحد، وها هم يرون فئات سكانية أخرى تكاد تفوق عند لحظة زمنية معينة، تعداد البيض في تعداد السكان، ليتعدل بذلك ويتبدل المنحى الديموغرافي لصالح فئات لم تكن هناك يوم تأسست أميركا أصلاً. 
هنا يبدو العقد، ضمناً، وكأن ترامب سيعيدهم إلى السلطة والسطوة من جديد، ويحافظ على تفوق الرجل الأبيض بقيمه الأنجلوساكسونية، ولهذا تبقى هذه الكتلة الصامتة داعمة من جديد لساكن البيت الأبيض. 

ترامب و«التعصب العكسي» 
هل تعاني أميركا حالة «تعصب عكسي»؟ وما الذي يعنيه هذا المصطلح في الأصل؟
لعل أفضل من قدم للعالم رداً مثيراً للتفكير في الأعوام الماضية حول هذه الإشكالية، كان الفيلسوف اليساري الفرنسي «ريجيس دوبريه» عبر كتابه «الأنوار التي تعمي»، حين أشار إلى أن المطلوب هو العقلانية، وهذه تضيع بين علمانية جافة تفرغ الحياة الإنسانية من أي معنى قيمي، ديني، أخلاقي، وبين أصولية متطرفة، تقود العالم إلى مواجهات ظلامية، سواء كانت أصولية مسيحية أو كونفوشيوسية، إسلامية أو بوذية، يهودية أو طاوية وماوية. 
هنا يمكن القطع بأن ما يجري في الداخل الأميركي هو «تعصب عكسي»، يخدم في نهاية الأمر التيار الديني اليميني الأصولي، ويعطي فرصة قوية لإعادة انتخاب ترامب مرة جديدة... كيف؟ 
خلال العقدين الأخيرين بلغ الشطط بالتيارات العلمانية الأميركية، حداً غير معقول أو مقبول، فأنت يمكن أن تفقد عملك إن كنت لا تؤمن بالمثلية الجنسية أو شيء من هذا القبيل، وهناك محاكم أصدرت أحكاماً قاسية على مواطنين أميركيين رفضوا عمليات الإجهاض، وقد وصل الأمر بالرئيس السابق باراك أوباما، للتصريح بـ«أن الحب انتصر»، يوم أقرت المحكمة العليا الأميركية حقوق الشواذ بشكل عام! وهنا كان لابد لـ«التعصب العكسي» من طرف الأصوليين الدينيين الأميركيين من أن يطفو على سطح الأحداث، وأن يجد له في ترامب عوناً وسنداً، ويضحي التصويت له أمراً طبيعياً، ذلك أنه وإن لم يكن رجلاً متديناً، إلا أنه وفي كل الأحوال يدافع عن القيم الإيمانية المسيحية التي يؤمن بها هؤلاء! 

الإعلام اليميني ودعم ترامب
في بدايات يناير الماضي صرخت القسيسة «باولا وايت»، المستشارة الروحية الخاصة بالرئيس الأميركي في إحدى عظاتها المتلفزة: «حين تقول لا للرئيس الأميركي ترامب، فأنت تقول لا للرب». و«باولا وايت» هي المسؤولة عن ما يعرف بمبادرة البيت الأبيض للإيمان والفرص، وهي واحدة من أثرى وأبرز وجوه التبشير التلفزيوني الإنجيلي في الولايات المتحدة. وكان ذلك التعيين ولاشك مقدمة للحملة الانتخابية لإعادة انتخاب ترامب للرئاسة مرة جديدة في 2020، ولاسيما أن هناك مفهوماً جديداً قد طرأ على أميركا من خلال أزمة انتشار فيروس كورونا، وكانت له جذور من قبل، وهو أن الأميركيين قد اعتادوا على ما صار يعرف مجازاً بـ«الكنيسة التي تذهب إليهم، ولا يذهبون إليها»، أي تلك التي تبث العبادات والصلوات، وتنقل الاجتماعات واللقاءات، عبر التلفزة والفضائيات ووسائط التواصل الاجتماعي، ولهذا باتت حملة ترامب الانتخابية، تفوق في فاعليتها ما تقوم به حملة غريمه «الديمقراطي» جوزيف بايدن. 

العزف على أوتار اليمين
ولم يتوانَ ترامب طبعاً في العزف على أوتار اليمين الإنجيلي الأميركي، ففي يناير الماضي، أيضاً، وقبل أن تشغله أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد «كوفيد- 19»، وخلال كلمة في إحدى كنائس ميامي بولاية فلوريدا، جنوب شرقي البلاد، وعد الناخبين بـ«انتصار كبير آخر للإيمان والأسرة، والرب والبلد، والعالم والحرية»، مضيفاً: «أؤمن فعلاً بأن الرب يقف إلى جانبنا». وفي هذا اللقاء، وضع «أحد رجال التيار الأصولي الأميركي» يده على كتف ترامب وأخذ يدعو له بالقول: «اسأل الرب أن يمنح الرئيس معرفة غيبية ليعلم من هو أهل الثقة، ومن ليس كذلك، وليفضح الرب ويبطل خطط كل أولئك الذين يريدون سوءاً بالرئيس ترامب وبهذا البلد»! 
ولكن، سؤال اللحظة الآن: هل من انشقاق، مؤخراً، في هذه الحركة من منطلقات فكرية وعقلانية؟

أصوات يمينية ضد ترامب
كل شيء يتغير في زمن الانتخابات الأميركية وفي بلد كأميركا يتعذر توقع أحداثه، ولهذا يتساءل البعض: هل دعمُ هذا التيار لترامب مؤكد بالمطلق؟ يبدو أن هناك أصواتاً بدأت تشق وحدة هذا الصف، ومنها «مارك غالي» رئيس تحرير مجلة «كريستياني توداي»، الذي كتب في وقت تصويت مجلس النواب على عزل ترامب في ديسمبر الماضي ساخراً منه بالقول: «إنه شخصية غير أخلاقية على نحو فاضح»! كما وصف طرده من البيت الأبيض بأنه «ضرورة حتمية مسيحية»، وكتب: «ليست المسألة ولاءات حزبية وكفى، ولكن الولاء للرب خالق الوصايا العشر». وكان مبعث غضب غالي هو «محاولة ترامب استخدام سلطته السياسية لإكراه رئيس أجنبي (رئيس أوكرانيا) ولمضايقته وتشويه سمعة أحد خصوم الرئيس السياسيين (جو بايدن)»، ووجه غالي رسالة للمحافظين الإنجيليين الذين يدعمون ترامب قال لهم فيها: «تذكّروا من أنتم ومن تخدمون»! 

كل الاحتمالات مفتوحة
من غير شك، إنها انتخابات رئاسية برسم توجهات عقائدية واجتماعية، وصراعات فكرية وعقلية، سيلعب فيها التيار الديني الأصولي دوراً مؤثراً كبيراً، وإن كانت الاحتمالات لا تزال أيضاً مفتوحة على كافة المسارات والمساقات في بلد يأتيك دوماً، في مثل هذه الاستحقاقات، بكل ما هو عجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©