السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الحوار والانفتاح يصنعان ملامح «شرقٍ» جديد

الآخر المختلف.. ورشة فنية عقدت ضمن معرض لقاء الشرق والغرب بالسعديات (أرشيفية)
3 أكتوبر 2020 00:11

إبراهيم الملا (الشارقة)

بالعودة إلى المرجعيات العتيقة حول الثنائيات المتنافرة، هل يمكن لنا القول اليوم إن انعكاسات وظلال مفهوم (الشرق) ما زالت منتشرة في الجغرافيا الذهنية الغامضة التي أسسّت لها السرديات الغربية، باعتباره شرقاً متخيّلاً وخاضعاً لوجهة نظر أحادية ظلت لعقود طويلة أسيرة للمزاج الغربي، ولأطروحات هذا المزاج تجاه المحتوى المعرفي لآلاف المخطوطات والكتب والقصص الشرقية القديمة، والتي تُعتبر بالنسبة لاستراتيجيات التقصّي الغربي، شواهد ومدونات مغرية بطابعها التزييني والزخرفي، ومثيرة للاستكشاف والفضول تبعا لمضمونها العجائبي، خصوصا وأن ترجمة الكنوز الثقافية المدونة في الأفقين العربي والإسلامي كانت هي الترجمة الملتبسة بامتياز، ذلك أنها ترجمة اعتمدت على الانتقاء العاطفي للمترجم، ثم ذهبت في اتجاهات شتى تبعا لتعدد اللغات الأوروبية الناقلة لهذه القصص والحوادث والمرويات، ما جعلها في النهاية ترجمات مبتورة وخاضعة للتصور الاستعلائي تجاه الشرق.
وتجاوزا لهذا التصور الاستشراقي القديم هل يمكن القول إن التقنيات الشفّافة، وآليات التواصل الحديثة استطاعت خلق مفهوم معاصر وجديد للشرق، واعتباره نسيجا ثقافيا ديناميكيا وحيويا يتأثّر بالرؤية الإنسانية الشاملة ويؤثّر فيها أيضا؟

نظرة استشراقية
لا شك أن الاحتكاك المكثّف بالثقافات المشرقية والاقتراب منها والخوض فيها، خلال القرن العشرين وما بعده، كان لهما دور واضح في تغيير وجهات النظر الغربية التي كانت قائمة سابقا على البعد التخيّلي حصرا، وعلى الانطباع المُجتزأ لاحقا ضمن الانشغالات الحدسية المتصلة بالخرافة والأسطرة والإيهام، إضافة إلى التوجّس والريبة والمغالطة، الأمر الذي هيّأ للنخب الفكرية الجديدة في الغرب مساحة خصبة للنقد والمراجعة وإعادة البحث والتنقيب في التراث الاستشراقي بحقوله الفنية والأدبية المتعددة، وبدراساته الإنسانية والأنثروبولوجية المتنوعة، ولكن في المقابل يظلّ السؤال الإشكالي حاضرا: هل استطاعت هذه المراجعات النقدية أن تردم الهوة المعرفية بين شعوب الشرق وبين شعوب الغرب؟ حيث إن تراكم الوعي الجمعي الملتبس والمبهم للشعوب الغربية تجاه الشرق، كان نتيجة لضغط انتقائي هائل مارسته المراحل الاستشراقية الثلاث الأهم منذ الحروب الصليبية وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهي على التوالي: 
مرحلة الاستشراق الاستعماري:Colonial Orientalism وتشمل كلّ ما أنتج من بداية تشكّل هذا التوجّه مع الحركة الرّومانسيّة الغربيّة إلى حوالى 1960، ثم الاستشراق ما بعد الاستعماري:Post-colonial Orientalism وهو التوجّه الّذي تشكّل في المرحلة ما بعد الهيمنة الاستعماريّة، ويرتكز أساسا على الجانب الثّقافيّ واللّغويّ وقد تلبّس لبوسا جديدا هو الاستشراق الجديد: New Orientalism الّذي تشكّل في بداية هذا القرن، ثم تأتي المرحلة الراهنة المتعلقة بمسايرة التعميم الطاغي لفكرة (التطرف الديني) واعتبار التطرف توجها سائدا ومتغلغلا في الثقافة الشرقية العربية والإسلامية، وهي الفكرة التي تم الترويج لها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة وبشكل شرس وغير مسبوق، كانت هذه الفكرة بمثابة الثمرة المسمومة التي طرحها ما يمكن أن نسميه (التحليل الغاضب) للمشهد الكارثي، لأنه في النهاية تحليل أعمى وعشوائي ولحظي لتبرير تلك الأحداث وربطها بعامل شمولي يرى في الشرق منبعا أساسيا ومنطلقا رئيسيا لشرارة الإرهاب والكراهية والتعصّب، وأفرزت هذه المرحلة وما تزال صداما حادّا بين المخيال الغربي المُستحدث، وبين الواقع الشرقي القائم، وظلّ التوتر الأيديولوجي مستعرا بسبب شيوع المفهوم الموجّه والمستند على فرضية خاطئة خرجت فجأة من رحم المفهوم البائد حول (الشرق المستبدّ) وتكريسه مجددا حتى يتم استثماره سياسيا واقتصاديا بالدرجة الأولى، وإعادة المجد الكولونيالي مرّة أخرى إلى الواجهة، ولكن في المقابل فإن الإسهامات الثقافية والفنية والأدبية المتبادلة بين الشرق والغرب، عملت بقوة على تجفيف منابع هذا التفسير المغلوط وتحجيمه كذلك، ومن خلال الحراك التنويري المستند على ركيزة التواصل الحضاري الحرّ والشفاف، تم وضع المعايير الاستعلائية والأحكام القاطعة والاتهامات المجيّرة في مكانها الهامشي الذي تستحقه، استطاعت عناصر بديلة ومؤثرة مثل الحوار الفنّي والانفتاح الفكري والتعاضد الإنساني، أن تنقذ الوعي الجمعي لكلا الطرفين، كي لا يسقط هذا الوعي مجددا في وحل «البروباجندا» الطفيلية والأنانية لفئات جشعة ومستفيدة من هذا اللبس والتشويش للروابط البشرية القائمة على التنوع والثراء وتوقير الجمال والتبادل الإيجابي للخبرات والمنافع بين الشعوب.

البهجة الروحية المشتركة
لقد حلّ مفهوم (البهجة الروحية المشتركة) مكان (اللذة الفردية) في هذا المناخ الجديد والواعد، باعتبار أن البهجة مستدامة، بينما اللذة مؤقتة، ويأتي دور الآداب والفنون لتأصيل هذا الفهم المثمر للبهجة وتقييمها على أساس تفاعلي ومتدفق ومستمر، لا على أساس مرحلي ونفعي ومنغلق، تعمل الأفلام، والمنصّات البصرية، والمعارض التشكيلية، والمدونات الأدبية بمختلف حقولها، على إيقاظ الضمير الإنساني عندما تخاطب الروح والبصيرة والفطرة، في نزوعها الدائم نحو المحبة والتسامح والتعاون الإيجابي، إنها عوامل خلّاقة ومحفّزة لصنع وعيّ شامل يفنّد كل الدعوات المحرّضة على الانقسام والعنصرية والاستحواذ والدونية، وكل الأشكال والتسميات الموحية بالتضاد السلبي، والمُقصية لصوت ولون ومَلْمَح التنوّع الإبداعي والتمايز الجمالي، إن الفنون والآداب هي ذخيرة الوعي الراهن لصنع مستقبل أكثر رخاءً وبهاءً وانسجاما، دون تصنيف واحتكار وتصفية للقيم الجامعة لوعينا الإنساني العميق والمتّسع والمحلّق، هذا الوعي المنتمي دائما وأبدا لجوهره النقي والخالد، لا لقشوره الطارئة والمتطاحنة فيما بينها حدّ التلاشي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©