الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ملحمة البحر

ملحمة البحر
8 أكتوبر 2020 00:04

يمتاز عالم البحار بخصائص فريدة ومغامرات فاجعة مذهلة في التجربة الإنسانية. ولقد شغل خيال المبدعين شعراً ونثراً ونغماً وتشكيلاً منذ أقدم العصور، رهبة واستكشافاً وسرد أساطير. وإذا تجاوزنا أوديسة هوميروس، نرى أن رواية «موبي ديك» لهرمان ملفيل من أهم الأعمال السردية في عالم البحار، وغالباً ما يقارنونها برائعة تولستوي «الحرب والسلام»، مع اختلاف الموضوع والأسلوب والرسالة الإنسانية.
 وإذا كان المجال لا يسمح بالخوض في تفاصيل البحث عن الحوت الأبيض، وسؤال بحارة السفن العابرة إن كانوا شاهدوه، ثم العثور عليه والاشتباكات الرهيبة معه، فإن رواية هيمنغواي «الشيخ والبحر» ليست أقل أهمية من رواية ملڤيل، وربما كانت تمتاز عنها في بعض السمات الإنسانية، سواء بحبكتها وهدفها أو لغتها الجمالية المكثفة التي امتاز بها هيمنغواي، فضلاً عن الجهود المضنية التي بذلها سنتياغو، والتباين الكبير بين عمل بطولي قام به الصياد العجوز في سبيل العيش، ومغامرة جماعية بغية الانتقام من حوت!

ورواية «موبي ديك» مغامرة لا تخلو من غرور قاتل ورغبة ثأرية طاغية استحوذت على الكابتن آخاب، ودفعت به وبمن معه من البحارة إلى الهلاك، فلم يسلم منهم إلا الراوي إسماعيل. وتشير بعض الدراسات المعمقة إلى أن اختيار لون الحوت الأبيض يوحي بأن الطبيعة قد تكون خادعة وأخطارها مقنَّعة، لا ينبغي الانخداع بها. ولا أرى ضرورة للخوض في رموزها التوراتية وإشاراتها الدينية، ولا الاستغراق في دراسة تصنيع زيت الحيتان. 

ملحمة مختلفة
ورواية هيمنجواي مترجمة بعنوانين مختلفين «الشيخ والبحر»، و«العجوز والبحر»، والعنوان الأول أفضل لأن الشيخ يمثل الصبر والحكمة ونضج التجربة، بعيداً عن العجز والوهن. وحين ترد صفة «العجوز» هنا فهي تلازم الصياد كإشارة لتقدمه في العمر. والرواية ملحمة مختلفة عن «موبي ديك»، لأنها تحتفي بعزيمة الإنسان وكفاحه المضني والمفعم بالأمل والاصطبار والجهد النبيل حتى حدود التضحية في سبيل الكرامة وانتزاع لقمة العيش بإصرار شديد. ويصف أحد النقاد أعمال هيمنغواي الروائية بعبارة «الفشل البطولي»، وهو وصف غير منصِف! لأن صراع الصياد العجوز كان في سعيه الدؤوب لتأكيد قدرته على العمل الذي يحبه ويتقنه، رافضاً القعود الخامل والاستجداء الذليل. ولا ريب أن العمل يشكل أعلى قيمة في حياة الإنسان، كما أنه وسيلة إنسانية سامية لتوفير العيش الكريم. والدرس البليغ الذي يتركه في نفس قارئه هو أن يتعلم الصبر والرجاء والمثابرة على إنجاز العمل، بغض النظر عن النتائج المترتبة على هذا العمل. فالصياد العجوز بقي 84 يوماً وهو يعود بلا صيد. ولذلك، يطلب من الصبي مانولين الذي كان يساعده أن يشتري له بطاقة يانصيب تنتهي بالرقم (85) لأنه رقم سعيد!

مكابدات سنتياغو
وينطلق سنتياغو بقاربه باكراً، ويوغل عميقاً في المحيط، حتى تغيب أضواء هاڤانا عنه. ومع انتصاف النهار، ينجح في اصطياد سمكة سيف كبيرة، يزيد طولها عن قاربه بمقدار قدمين. ويكابد طويلاً في صراعه معها، وهي تجر قاربه بعيداً في عرض المحيط. وسنتياغو صياد قوي ماهر، يمتاز بخبرة كبيرة تتجلى للقارئ من خلال مزايا عديدة، فهو يعرف أن الأنثى هي التي تبتلع الطعم، بينما يكون الذكر مرافقاً لها، وهو يميز بين صوت الذكر الخشن وصوت الأنثى الذي يشبه الهديل، ومن نظرته لمواقع النجوم يعرف اتجاهه وهو واثق من طريق عودته بلا بوصلة. كما أنه أيضاً يتقن المناورة بمهارة مع السمكة الكبيرة، فنراه يشد الحبل حيناً ويرخيه أحياناً، حتى يدركها التعب وتستسلم له. ويستمر صراعه معها لليوم الثالث. وفي طريق عودته مظفّراً، تهاجمه أسماك القرش ويخوض معها معركة يائسة، فيتمكن من قتل بعضها، ولكنها تتكاثر عليه وتلتهم السمكة، فلا يبقى منها غير الرأس والهيكل العظمي.

مصير مترابط
وكان سنتياغو طوال هذه الرحلة يتذكر الصبي، وكلما ضاق بالوحشة وشعر بالإرهاق نراه يردد: «ليت الصبي كان معي». ويشير بعض النقاد إلى أن هذه إشارة رمزية إلى صباه وعزيمته أيام الشباب، خاصة أنه انتصر على خصمه أكثر من مرة في مباراة صراع الأيدي في الدار البيضاء.
وفي صراعه الطويل مع السمكة الضخمة السابحة على عمق مئة قامة أو أكثر، لم يكن خائفاً من ذلك لأن لديه ما يكفي من لفات الحبال الاحتياطية، ولكنها تجر قاربه بعيداً وتضطره لأن يلف الحبل حول ظهره وكتفيه بعد أن أدمى يده اليمنى، وأصيبت يده اليسرى بالتشنج. وكان يخاطب السمكة قائلاً: «مصير كل منا مرتبط بالآخر، وسأبقى معك حتى الموت». ومن طول خبرته كان يدرك أن السمكة لم تغير اتجاه سيرها طول الليل، ولكن برودة آخر الليل أصابته بالقشعريرة. وفي الليلة الثانية كان يتمنى أن تنام حتى يستطيع هو أيضاً أن ينام ولو نصف ساعة. ولعل انتصاره الكبير أن الصبي الذي كان يساعده قرر أن يعود للعمل معه من جديد، وكان والده قد منعه من مرافقة الصياد العجوز «لأنه منحوس»، وذلك بعد أربعين يوماً من فشله في الصيد.

لم يخلق ليُهزَم
ولغة هيمنغواي ساحرة بعباراتها الشعرية المكثفة، وكأنه يستخلص تعابيره من رحيق الإبداع. وهناك إلماحات خاطفة ومتناثرة بكثرة في ثنايا النص، تذكرنا برسم المنمنمات في الفن التشكيلي الحديث، ومنها: مرور الطائرة المتجهة إلى ميامي، وحركة الأسماك الطائرة، وزيارة العصفور وكأنه بشارة خير، وليس معه إلا قارورة ماء، ثم الحرمان من النوم على مدى ثلاثة أيام مضنية، حتى شعر بلحظة غيبوبة، فضلاً عن الجراح التي أحدثها الحبل الملفوف على كتفه، وانجراف قارب الصيد في تيار الخليج وراء سمكة الصيد العملاقة التي راحت تسبح بعيداً، ساحبة وراءها القارب، وضياع الحربة خلال صراع سنتياغو مع أسماك القرش المهاجمة. ومن الجمل البليغة اللافتة قوله: «الإنسان لم يخلق ليُهزَم. الإنسان يمكن أن يُسحَق، لكنه لا يهزم أبداً»، و«كل يوم هو يوم جديد»، و«لماذا يصاب الكبار بالوهن إلى هذا الحد؟».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©