السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

زمن الشعر!

زمن الشعر!
22 أكتوبر 2020 01:16

هل هناك شيء اسمه الشعر؟ سؤال غريب على قدر ألفته. ما من شيء اسمه الشعر سابق لكتابة القصيدة. ليس هناك شيء اسمه جوهر الشعر، فالنص يصير شعراً بعد وضعه، أي يحمل اسمه، هويته، تجربته، تجريبيته، فرادته. وقد لفتني مقال نقدي نشر في إحدى الصحف يقول كاتبه عن أحد الشعراء «إنه يتميز بالبساطة، وهذا جوهر الشعر»! ويعني ذلك أن جوهر كل شيء هو البساطة، هو المعطى الجذري الجاهز لكل كتابة، وقد يدلنا ذلك على حطم بداءة الشعر، باعتباره على امتداد تاريخه محط التناقض، وغير الألفة، والتناص، والمشابهة.
فإذا كان الشعر في جوهره البساطة، فأين يمكن أن تضع شعراء عرباً، قدامى وجدداً، تميزوا بالقصيدة المركبة أو الدفقة المليئة بالغرائب، والتأملات اللغوية، أو تفجراتها كمالارميه، وبول فاليري، وأبي حيان التوحيدي في إشراقياته، أو أبي تمام وخروجه على العمود الشعري في العصر العباسي الأول، والمتنبي وخروجه أحياناً على المعادلات المسبقة، أو شكسبير وفجاءاته، أو السريالية وتماسّاتها اللاواعية وأحلامها وكوابيسها، أو الرمزية وإيحاءاتها بالصورة، وتنازعات أجزائها وقراءتها المتعددة، أو الصوفية ونزاعاتها المتصارعة خصوصاً عند النفري في «مواقفه».. فماذا يعني ذلك؟

إن صفة جديد في الشعر لا تلائم طبيعته، باعتبار أن الشعر بهذه الطبيعة دائماً جديد، دائماً يتناحر مع حرياته ونزقه، وتخطياته. أن تقول «الشعر» يعني أنه «جديد» بما يسبقه من معادلات وقواعد ومدارس، وبما يليه من خضوع لها.

لا أسماء للشعر
ومن هنا نقول إنه لا مسميات للشعر إلا بعد «وجوده» أي ماديته، نصه، لعبته، نزعته. على هذا، فكل جديد هو تجريبي، يتحرك فيه الشاعر كأنه في مشغول: أعمى في توغله، أو اكتشافه، ضلّيل الدرب، وعلى هذا الأساس فكل نظرية تسبق النص، تقيده، بوضعها علامات وإشارات طرق، ومناطق محددة، ولغة سجانه، فالنظريات التي عرفها الشعر منذ أفلاطون، وحتى الرومنطيقية، والرمزية والدادائية... أعمارها قصيرة، لمحة طائشة في فضاء واسع. أن تحدد للشاعر سلفاً كيف يكتب، ببيانات أو قوانين، تنفي طبيعته الحرة (نتذكر هنا قول سيمون دوبوفوار: لا تولد المرأة مرآة بل تصيرها، لا يولد الشعر ضمن قضبان بل يصيره خارجها). طبيعة الشعر أن يكون جديداً يعني أن حركته في الوصول إلى سواه، أو أبعد منه، بطيئة. كل جديد بطيء الوصول، وكل جديد يتنكّب المحمولات التاريخية، لكن بتحويلها هنا وتحطيمها، وتجاوزها، وهنا بالذات تكمن مشكلة الشعر، الذي يحمل هذه المواصفة، مع الآخر، أو مع الجمهور المستهلك السريع، أي المستهلك كل ما هو يتجذر في عاداته وأنماطه، وأحاسيسه وأفكاره الجاهزة.

الشعر «مغامرة»
وهنا يبدو التمييز بين جدة الشعر وبين وصوله، يمكن أن نميز بين هذه الجدة، والنمط، أو الموضة، فحركة الشعر «المغامرة» بحرياتها الشاسعة لا يمكن أن تكون أدوات استهلاكية أو بضائع تخضع لمتطلبات المجتمع، بحسب قاعدة العرض والطلب والاستجابة. ومن هنا بالذات، بقي هذا النوع من الشعر بطيء الوصول، يحتاج إلى وقت، لكي يداخله القارئ أو المتلقي. نعم هذا الشعر يتطلب قارئاً يشبهه، أي لا يخضع لما هو هش، وعابر، ومستوعب لسلطته: وهذا ما يثير ما يسمى التفاوت بين شعر يخضع لهذه المقولات التي تأتي من خارجه، وبين شعر يتمرد وحيداً في جموع لا تميز بينه وبين معطيات تلائم ركودها، أو جمودها.

قصيدة اللاجمهور
دينامية الشعر هي أن يصدم باستمرار يهز الذائقة، يغربها، وينفيها، يحطم العادات الكسلى، أو الجمود إلى كل ما هو مريح وجاهز وسهل. فهو ليس نوعاً جماهيرياً بالمعنى الذي يكتب الجمهور قصيدة الشاعر. بل على العكس، أن يكتب الشعر قصيدة اللاجمهور المتشابه، المتسابق الذي ينتظر أن تصل القصيدة إليه بسلبيته، بدل أن يصل إليها بإيجابيته. ومن هنا، نجد أن الشعر هو الفن الوحيد الذي نجا من العولمة، بمعناها الاستهلاكي، والاستيعابي، وحتى التجاري. فالمسرح والفنون التشكيلية، والرواية، وحتى السينما، وخصوصاًً التلفزيون، افترستها كلها العولمة، عندما لبّتها بمنحاها التسليعي الكمي، فقلما عرفنا شاعراً كبيراً حقق «بيست سيلرز» أو «الأكثر مبيعاًً» بل نجد باستمرار روايات «بست سيلرز» تباع بالملايين، وأفلاماً تحطم الأرقام القياسية بمشاهداتها، ولوحات تباع بمئات الملايين! ومسرحيات شعبية تستمر عروضها سنوات... أو ما نشهده اليوم من مسلسلات تلفزيونية تتبوأ «الأكثر مشاهدة».... فالعولمة، تعني الكمية وتعني الاستهلاك، أي تعني الاتجار، وهذا نقيض طبيعة الشعر باختلافاته ووتائره، تهافت تجمده.

90 % لا يقرؤون 
الشعرأجرت مجلة «إسبري» الفكرية المرموقة تحقيقاً حول قراء الشعر في فرنسا فعنونت النتيجة: 90 بالمئة من الفرنسيين لا يقرؤون الشعر، والغريب أن بعض النقاد والكتاب استغرب هذا العدد، ولكن لو عاد، مثلاً، إلى القرن التاسع عشر، عندما اخترقت اللغة تضاعيف القصيدة، وصارت قضية من قضاياها (التجريبية) نجد أن كبار الشعراء كبودلير، ورامبو، ومالارميه، وفاليري، لم يُبَع من كتب كل واحد منهم أكثر من عشر أو عشرين نسخة! رامبو باع أربع نسخ، مالارميه عشرين نسخة، فاليري لم يتجاوز العشرات. بل إذا عدنا إلى القرن العشرين نفسه، بشعرائه الكبار أمثال بول كلوديل، وبيار جان جوف، وجاك دوبان، وإيف بونفوا، ودوبوشيه.... فسنعرف أن كل واحد منهم لم تتجاوز مبيعات كتبه الخمسين أو المئة أو بالحد الأقصى الثلاث مئة نسخة... (مع بعض الاستثناءات: جاك بريفير وصلت مبيعات كتبه إلى مئات الآلاف لسهولة كتابته ويُسرها وبساطتها).
وهذا الواقع لا يختلف عندنا، فإذا أخذنا كبار الشعراء ذوي التجارب المركبة كأنسي الحاج، وأدونيس، وشوقي أبي شقرا (باستثناء نسبي هو الماغوط) أو أمين نخلة، أو الأخطل الصغير (برغم شهرته في عهده) فهؤلاء، ومعهم شعراء السبعينيات وما بعدها لا يتجاوز توزيع كل كتاب من كتبهم المئة نسخة أو أكثر بقليل. ولهذا يلجأ الجميع إلى توقيع كتبهم بدعوات شخصية أو عمومية ليجمعوا ثمن طبع الكتاب. وقد راح بعض الناشرين إما يفرض توقيع كل شاعر كتابه، أو أن يدفع ثمن تكاليفه.

زمن الشعر.. مات؟!
السؤال: هل هذا يعني أن زمن الشعر مات؟ أو نعلق ورقة نعيه: موت الشعر كما اختلط على بعض كبار النقاد فاعتبر أن زمننا هو زمن الرواية لأنها تجد حيثية في سوق البيع أو الانتشار، وإن زمن الشعر تولى، ولكن، نشير هنا، الى أن الرواية الحديثة، كانت دوماً أكثر مبيعاً من الشعر، في القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، مع بلزاك، وإميل زولا، وفلوبير، ونجيب محفوظ، ويحيى حقي، ويوسف السباعي، وتوفيق يوسف عواد، وحنا مينا، وعبدالقدوس... فهي نوع مختلف عن الشعر ولا يجوز حتى مقارنتها به:فهي صنعت لتنتشر فتنجح بنسبة الكميات المستهلكة منها، ولكن، إذا عدنا اليوم إلى واقع الرواية وطبيعتها، نجد أنها تعيش في أزمة كبرى تهدد جديدها وابتكاراتها، أي إن كثيرها خصع لمنطق العرض والطلب، بل أكثر، أدخلت الصحافة الأجنبية الرواية البوليسية (Polar) في مصاف الروايات الأدبية، وهذا الخليط لا يمكن أنُيفهم إلا من معناه التجاري: كأن تشبه أرسين لوبان برواية لدوستوفيسكي أو بيار غيوتات، أو فرانسوا مورياك، أو أندريه جيد، أو يوسف حبشي الأشقر...

عولمة الرواية
إنها عولمة الرواية بامتياز! وعندما تعلن أن الزمن زمنها، وليس زمن الشعر، فيعني ذلك أننا نتجاوز قيم «الأدب المقارن» ودوره، ونمزجه بتراتبية تفاضلية تعود إلى «قيمته التجارية» وقد التبس هذا الأمر على كثير من النقاد وحتى الشعراء، فتبنوا «نظرية» موت الشعر، وأطلقوا دعوات دفنه، شاعر يعلن موت الشعر ولا يعلن موته الشعري، بل يستمر بنشر كتبه والمشاركة في المهرجانات والأمسيات الشعرية! بل إن بعض الشعراء انكبّ على كتابة الروايات ليرشحها للجوائز العديدة، أن تكتب رواية لتنال جائزة يعني أنك خضعت لمتطلبات الذائقة السائدة أو منطق المكافأة المادية. وهذا نقيض الشعر!

عصر الشعر الذهبي
ونظن انطلاقاً من قراءاتنا واطّلاعنا على الحركات الشعرية العربية والأجنبية الشابة والمخضرمة (وقد نشرنا أعداداً خاصة في الأقسام الثقافية لعدة صحف ومجلات لبنانية وعربية لهؤلاء الشعراء)، أن الشعر اليوم يعيش عصره الذهبي بامتياز، خصوصاً عند الأجيال الجديدة.. لماذا؟ لأنه أولاً تحرر من قيود المدارس والاتجاهات الشعرية التي سادت القرن العشرين، خصوصاً في منتصفاته، وحتى اليوم. فالمدارس الشعرية تحدد سلفاً طريقة الكتابة، من خلال قواعدها وبياناتها فتفصم هذه الحرية المطلقة للشاعر. أي أنها تحدد مسبقاً «جوهر» الشعر كما تراه، أحياناً بصرامة «أيديولوجية» وأخرى بقسوة «أنطولوجية». مع تولي زمن الرواد وحوارييهم، والذين شكلوا في بعض المراحل عبئاً على الشعر ودينامياته ولاسيما الذين تمسكوا بتجاربهم المرتبطة بتلك المدارس كالسريالية والدادائية والرمزية والرومنطيقية كأنما معظمهم توقفوا عند مرحلة من مراحلهم ودأبوا بسهولة على تردادها وتكرارها ليقلدوا أنفسهم تقليداً بلا ماوية ولا تجدد. 

تساقط الثورات
ثانياً، تساقط الثورات الأيديولوجية ودعائمها الثقافية، والأدبية، والفنية التي كانت تقطُر هذه الظواهر بقاطرتها الحزبية والسياسية ومفاهيمها الجدانوفية... وكذلك، سقوط أنواع الالتزام التي تقنن الشعر تقنيناً يحد من مغامراته ونزقه وجنونه وتجريبياته واتساع آفاق التجارب الشعرية في أمكنتها وأزقتها ووسائلها من قصائد صوتية أو بصرية أو جسدية أو إيقاعية، أو أدائية...
ثالثاً، تجاوز الشعر العربي خصوصاً كل مركزية للشعر، أو مرجعية، كأن يقال إن هذه البلاد هي عاصمة الشعر أو ريادته، بحيث أدرك كل الديار العربية، من مصر ولبنان وسوريا والعراق ودول الخليج العربي وتونس والجزائر والمغرب... وهذا لا يعني انفصالاً أو قطيعة بين الشعراء. بل تحريرهم من كل سلطةٍ مركزية ثقافية كانت أم متعلقة بالنشر والتوزيع.
إذاً كانت التجريبية عند الشعراء الرواد وغيرهم طالعة من عمق «النظريات الجاهزة» غربية كانت أو شرقية، وقد حالت هذه المحاكاة دون ممارسة جدية لهذه التجريبية مما حال دون تجاوزهم أساليبهم، أو طرقهم إلى أمكنة المجهول والصعب، والشعر هو فن الصعب لا سهله، وليس وظيفة تمارس بسهولة، أو بعادات مقننة.

فخ الفيسبوك
ولكن أيكون كل ما أوردناه عن الشعر وتفلته وفرديته وابتكاراته إشارات توصي إلى النوم على حرير الشهرة. والتجدد والحرية اليوم؟ لا! فهناك شعراء جدد وراسخون وقعوا في فخ الوسائط الاجتماعية، من فيسبوك، أو إنترنت، ينشرون فيها قصائد «مرتجلة» أو متسرعة، طمعاً بإيصال شعرهم عبر هذه الأدوات الاجتماعية التكنولوجية، وممارسة هذه الوسائل هي نحر للشعر وجديته وتجريبيته وآفاقه المركبة والمعقدة... فالشعر مكانه الكتاب أولاً وأخيراً، مكانه الورقة في المجلات والصحف والملاحق... لا على شاشات وقنوات استهلاكية وتسليعية بحيث تكون أداة، بحجة تيسير التواصل، لقطيعة تاريخية مع المغامرة الشعرية في تأمل اللغة والبحث في احتمالاتها وثرائها وكنوزها! فهذه الأدوات جزء من هذه العولمة، التي ترى الأمور مجرد بضائع، تستهلك فور صدورها أو نشرها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©