الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هدى النعماني.. مُراقصة المستحيل

هدى النعماني.. مُراقصة المستحيل
19 نوفمبر 2020 00:59

قبل بضعة أيام، وعن تسعين عاماً، رحلت في بيروت الشاعرة اللبنانية من أصل سوري هدى النعماني (1930 - 2020)، بعدما كرّست حياتها كلها للشعر منذ لحظات وعيها الأول به. وكانت تعتبر القصيدة بيتها الوجودي ترتاح فيه، وتؤسّس أيضاً لموت بدني مريح درّبت نفسها عليه قبل الأوان، ودائماً من خلال بلورتها معمارية شعرية صوفية تستدعي هي الرؤيا إليها لتكون من مقاماتها الذاتية الدفينة، وفي الوقت عينه تحلّق عبرها، من جديد، نحو أعلى درجات سلّم تكامل وردة روحها مع المطلق أو اللامتناهي.
ولقد حرصت الشاعرة هدى النعماني كل الحرص على ألاّ تتحوّل تجربتها الشعرية الصوفية إلى نوع من «الانغلاق الرحب» على عوالم الغيب والاتحاد فيها، على غرار من سبقها من شعراء عرب وغير عرب، ممن خاضوا مدارات التصوف ودروب مواجيده وانجذاباته، بل عملت على تأسيس ذاكرة شعرية صوفية جديدة ومعكوسة لرؤية عالم الغيب ومعالم الاتصال بجوهره، من دون أن تتخلى، طبعاً، عن جذر السؤال البريء، الخام وغير الخاضع للنوايا الغرضيّة والنفعيّة، فكانت بذلك صوتاً متفرّداً في لوحة الشعر الرمزي الصوفي.. صوتاً مستقلاً سينبلج الفجر الكياني على صدره:

«قيل لها تنبّهي أيتها النائمة في نومك/‏‏‏ وتيقّظي أيتها القائمة إلى قيامك/‏‏‏ من مشارق الكون ومغاربه/‏‏‏ سينبلج الفجر على صدرك/‏‏‏ لن تنامي أبداً..» (من ديوانها «نقطة على الهاء»).

وصية جدّها الأكبر
أوصاها جدّها الأكبر، القطب الصوفي الشيخ عبدالغني النابلسي، أن عليها فيما إذا كانت جادة فعلاً في الدخول إلى تلك المفاوز التي لا تنتهي بين الأرض والسماء، أن تكون متسلحة بفهم ما تريد، وألّا تستسلم في منتصف الطريق أو تتراجع تحت أي ضغط. كما أوصاها -وهنا الأهم- بعدم الانفصال عن حياة عصرها وشروط تحدياته المتغيرة كل يوم، وأن تعتبر الشعر، مثل الوعي الفكري النقدي، مسألة لا تقبل التهاون في تحمّل المسؤولية، والتركيز على حب الآخر، والإيمان به، وتجنّب صراع الكراهيات معه، فالآخر مهما بلغت درجة كراهيته وعداوته، هو الوجه الآخر لنا، ولا يجوز استطراداً، مبادلة الانحطاط بالانحطاط.
وعلى ما يبدو استجابت شاعرتنا لنصائح جدّها المتصوف الأكبر، الذي كان هو أيضاً على مستوى واحد من الانخراط بين ذروة الحب الإلهي من جهة، وذروة الانتماء إلى حركة الواقع الضاجّ بنفسه من جهة ثانية. قالت لي في حوار أجريته معها لإحدى الإذاعات الخاصة في بيروت عام 1981: «الصوفي العظيم إنسان عظيم في تعاطفه مع سائر مخلوقات الكون، وأولها وآخرها: الإنسان، هذا الكائن العاقل المحتار والمحيّر. والتعاطف هنا لا يعني النظر بحنوّ العدالة الإلهية على المظلوم والتضامن معه فقط، وإنما الانتصار له على أرض الواقع مباشرة؛ فالصوفي الحقيقي هو مفوّض في أن يكون واقعياً ومثالياً في آن. ومن هنا وجب عليه أن يكون نصيراً للإنسان في زمنه، وكل الأزمنة الماضية واللاحقة على السواء». 

عشق اللغة والاكتمال بها
عشقت الشاعرة هدى النعماني اللغة، فعشقتها اللغة، واكتملا معاً في نص صوفي شفّاف واحد بوجوه متعددة، تسهُل عبر مرآته قراءة المصطلحات والعلامات والطقوس ورموز الرياضات الروحية، وكذلك صور التعبير عن لذة الاكتشاف النوراني لحظة دخول الشاعرة فيه بعد طول آلام الاستطلاع. 
كما نجحت الشاعرة، على مستوى آخر، في جعل لغتها الشعرية مرنة، متوثبة، مشحونة بتدافعات السياق التخاطبي، وهي (أي اللغة) ذات قدرة على التصوير والانفتاح والاختزال، والإمساك بالمنطلقات التي تخضعها لشروط تجربتها الصوفية التي تتجلى لنا بمجرد قراءتنا لقصيدتها الحسّاسة، الناعمة والمضاءة بقوة الجدل:
«أنت هو لأنه خلقك، صنعك، أعطاك، البحر فيك/‏‏‏ أنت هو لأنه يراك، يعرفك، يضيئك/‏‏‏ يكلمك، يحملك، يرميك/‏‏‏ لأنه يدوسك، يفتتك، ينثرك/‏‏‏ يجمع فيك/‏‏‏ أنت هو لأنك موجود/‏‏‏ والعالم في يده فراشة/‏‏‏ والفراشة أعظم منك.. أجمل منك/‏‏‏ لأنها أصغر منك وأكبر منك».
على غرار هذا الأسلوب الفني المشرق، تمضي الشاعرة في كتابة قصائدها التي تحمّلها مضامين صوفية وأخرى وجودية فلسفية، فضلاً عن قصائد أخرى كثيرة تنافح فيها عن المرأة العربية المظلومة في مجتمع عربي هو الآخر مظلوم، ويحتاج إلى من يأخذ بيده وقلبه وعقله إلى فضاء الحرية والتفتح. ولطالما تحدثت شاعرتنا عن أن أول قصيدة كتبتها كانت تنطق بصوت زنجي صغير يسأل والده: لماذا أنا أسود؟

لغة الرؤية الميتافيزيقية
باختصار، هدى النعماني شاعرة متصوفة حديثة تتفاعل مع ديناميات الحداثة بوجوهها المتولدة كافة. وتؤمن بتحديث البنية السوسيولوجية للمجتمع العربي ومعه طريقة النظر للثقافة الروحية العربية ومد لغة الرؤية الميتافيزيقية إليها. ومن هنا رأيناها منفتحة على تجارب كبار شعراء الحداثة العربية، من أمثال بدر شاكر السياب وأدونيس وأنسي الحاج ومحمود درويش ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وفؤاد رفقة؛ وكذلك نزار قباني وخليل حاوي وبلند الحيدري. وقد حوّلت منزلها في بيروت إلى شبه صالون أدبي خاص بالشعر والنقد الشعري، كان يرتاده أغلب الشعراء ممن ذكرنا أسماءهم.
وبُعيد توقف الحرب الأهلية اللبنانية، استعادت الشاعرة هدى النعماني نشاطها الحواري حول الشعر، ومن منزلها الأنيق الواقع بين «البيْروتَين»، الشرقية والغربية، بلغة زمن الحرب. وقد كنت ضيفاً دائماً على «صالونها الأدبي» الذي كان في واقع الأمر متقطّعاً أو غير منتظم. وأتذكر آخر جلسة شاركت فيها قبل مغادرتي لبنان عام 1991 أنها كانت بحضور الشاعر الكبير أنسي الحاج وحشد من الشعراء والكتاب والمثقفين اللبنانيين والعرب المقيمين في بيروت. ومن ضمن الموضوعات التي تطرقنا إليها في تلك الجلسة، ظاهرة الشاعر نزار قباني وموقعها في خريطة الحداثة الشعرية العربية، حيث كان ينظر أنسي إلى شعرية نزار بكثير من التقييم الإيجابي، خصوصاً لجهة تخلص نصوصها من اللغة الشعرية المخضرمة، والتي كانت سائدة في الكثير من نصوص الشعراء العرب المحدثين ممن تنكّبوا معركة الحداثة، متوهمين أنهم اشتقوا لغة شعرية جديدة ومفارقة، بينما كانت نصوصهم، في حقيقة الأمر، تشي بعكس ما يدّعون ويتقولون.
وما أتذكره وقتها أن أنسي الحاج أشاد بالسهل الممتنع عند نزار قباني، وبراعته في استخدام لغة الحياة اليومية في الشعر، حتى وصل به الأمر حدّ مزج العامية بالفصحى من دون أن يُشكّل الأمر عبئاً على قصيدته وجماليتها الجديدة. لقد جعل الشعر (والكلام لأنسي الحاج) سهلاً على أفهام الناس ويسيراً على ألسنتهم. ومن هنا تجيء البساطة لديه لترتقي إلى مستوى إعجاز لغوي بذاته، هو إعجاز الوضوح والإشراق المنطلق دوماً من المألوف واليومي. 
طبعاً لم يعجب هذا الكلام الكثير من الحضور، وبعضهم رفضه بشدة. وما أتذكره أن أنسي طلب يومها تعليقاً من هدى النعماني بالذات، فقالت: «نعم، أرسى نزار قباني في قصيدته الجديدة لغة فنية مستساغة يُقبل عليها الجميع ويحبها الجميع، بغض النظر عن التقييم النقدي لمضمون ما تقوله قصيدته». وأردفت: «نزار شاعر كبير، وثوري كبير أيضاً، دعا إلى تحرير المرأة كجزء لا يتجزأ من تحرير الإنسان العربي. ومن هنا ربما رجحت كفّة شعره السياسي على شعره الغزلي من ناحية القيم التغييرية التي حملها هذا الشعر، والذي جاء متنه محمولاً دائماً على لغة سلسة واضحة ضاعفت من جمهور نزار القرائي على المستوى العربي».

الخوف من النفري
فوق هذا وذاك، يجب أن نتذكر أن صوت هدى النعماني الشعري تشكّل تاريخياً في وسط فوران مرجل تجارب شعراء مجلة «شعر»، ومجلة «الآداب»، و«ملحق النهار الأدبي» الذي كان له أيضاً دوره الكبير في تفعيل وتجذير معركة القصيدة العربية الحديثة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وفي كنف هذا الجو، وما تلاه، ظلت شاعرتنا محتفظة بقصيدتها الصوفية ذات المنحى المختلف والمتوازن بين الروح والعقل والقلب والمشاعر كلها. وكانت شديدة الحرص على تطوير قصيدتها فنياً لتواكب من خلال نموذجها مسار «تطرف» القصيدة الحديثة. ومن هنا أطلق عليها أنسي الحاج لقب «رائدة القصيدة الصوفية العربية الحديثة».
ومن المهم أن نذكر بعد، أن هدى النعماني كانت تكتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وكانت تدخل على المصادر الغربية الخاصة بتطوير تجربتها الشعرية بقراءتها المباشرة عن هاتين اللغتين. وقالت لي إنها ستشرع في تعلّم اللغة الألمانية لتعمّق من ثقافتها الفلسفية والروحية بهذه اللغة، التي استوعبت التراث العربي والإسلامي الصوفي كأكمل ما يكون عليه الاستيعاب. لكن الحرب الأهلية اللبنانية وأطوارها الدراماتيكية حالت دون تحقيق حلمها هذا.
تأثرت هدى النعماني صوفياً بالحلاج وابن عربي والنفري. لكنها وجدت في النفري و«مخاطباته» بلاغة مختلفة، لغة وتأملاً وافتضاض أسرار. «لقد أخافني النفري من كثرة إعجابي به. وأكثر من مرة راودتني نفسي في أن أقلده، لكنني كنت أتراجع في لحظة البدء». وأردفت تقول في حوار لي معها: «النفرّي خلق جواً استثنائياً في المشهد الشعري العربي الحديث؛ واكتشافه وتقديمه من قبل أدونيس، بعد المكتشف الأول له المستعرب البريطاني آرثر جون أربري، هو أمر يجب أن يسجل لأدونيس شاعرنا الكبير، الذي أعتبره السلف الشرعي والوحيد لقصيدة النثر العربية». وما أكثر ما أخافك في النفري على وجه التحديد؟ سألتها فأجابت: «يكفيك هذه الجملة التي قالها: المعرفة نار تأكل المحبة لأنها تشهدك حقيقة الغنى عنك».
تركت شاعرتنا أكثر من عشرة دواوين شعرية، من أهمها: «أذكر كنت نقطة.. كنت دائرة»، «هاء تتدحرج على الثلج»، «هدى أنا الحق»، «رؤيا على عرش»، «نقطة على الهاء»، «كتاب الوجد والتواجد»... إلخ.
وليس من المبالغة أبداً القول إن إيقاع الشعر العربي الصوفي المعاصر قد تغيّر كليّاً مع الشاعرة هدى النعماني، أقله لناحية لغة التعبير واختلاف أساليبها وعباراتها ولفظها وجرسها، وهي كانت تدرك ذلك، ولكنها كانت تتحرّج من مسألة الإعلان عن هذه المسألة، تواضعاً وانسجاماً مع شخصيتها التي تتجنّب الادعاء. ثم إنها كانت تحب ترك تقييم نتاجها للآخرين، وليس لنفسها. كان همّها حتى آخر يوم من حياتها، الارتقاء بمحصول التفاعل الصوفي الذوقي من أجل صوغ الرؤية.. رؤيتها، التي لم تُحصّلها على ما يبدو إلا بعد رحيلها عن هذه الدنيا.
 وداعاً هدى النعماني..
 لقد تحققت «رؤيتك» الآن وتخلّصت من مراقصة المستحيل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©