السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الولادة الثالثة للفلسفة

الولادة الثالثة للفلسفة
19 نوفمبر 2020 00:59

لا يمكننا تعريف الفلسفة، إلا إذا قمنا بمسح شامل لتاريخها. تلكم هي فكرة هذا المقال: تظهر الفلسفة كتحقق ينجز ذاته داخل التاريخ، في ارتباط بطبيعة الأزمات التي يعرفها الوضع البشري. فقد ظهرت الفلسفة بداية مع اليونان، كاستجابة للتعقيدات التي طرحتها أثينا. ثم بعد ذلك ارتحلت إلى بغداد مدينة السلام آنذاك، كما وصفها الخطيب البغدادي، كي تساعد على حل مسائل الإلهيات، التي طرحت بعد انفتاح العقيدة الإسلامية على العقائد الأخرى. ثم ولدت الفلسفة بعد ذلك بقرون، في عواصم أخرى مثل باريس وشتوتغارت وكونينسبورغ ولاهاي وغيرها، كتعبير عن التحولات العظيمة التي عرفتها أوروبا نحو الحداثة. واليوم، كذلك، ما زالت الفلسفة تواصل تطورها، مع ظهور تحديات جديدة مميزة لوضعنا الراهن، حيث المسائل المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، وسعادة الفرد، وأسئلة التطورات العلمية والتقنية، والمصير العام للحضارة الإنسانية وقضايا البيئة وغيرها.

غير أن التحديات الأعظم للفكر الفلسفي، تولد في منطقة لم يكن أي أحد يضعها في الحسبان، إنها وادي السيلكون في خليج سان فرانسيسكو، حيث تقوم التطبيقات التكنولوجية الفائقة بوضعنا أمام إحراجات غير مسبوقة في تاريخ البشرية. لم يتمكن أي شعب من معاينة هذه الأسئلة الفريدة من نوعها التي نواجهها حالياً. أسئلة الاحتباس الحراري، والهندسة الجينية، وتطبيقات النانو، وأبحاث الذكاء الاصطناعي، وبرامج غزو الفضاء، وتعمير الكواكب البعيدة... لكل هذه الأسباب يبدو أننا نعاين ولادة جديدة للفكر الفلسفي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، نظراً لأننا أمام مرحلة غير اعتيادية، بسبب طبيعة الأسئلة التي تطرحها والرهانات التي تسعى إليها.

الفلسفة كمشروع ميتافيزيقي 
لقد اعتنى الفلاسفة منذ اللحظة اليونانية بالنظر إلى الحقيقة في شموليتها، فسواء مع سقراط أو أفلاطون أو أرسطو، تركز الانتباه على شيء أساسي، وهو أنه وراء هذه الفوضى الظاهرة التي تطبع الوجود، ووراء هذا التحول الدائم للحياة، هناك أشياء جوهرية ثابتة هي التي تمثل الحقيقة، التي ينبغي العثور عليها وراء فوضى الظواهر. هذا هو جوهر ما يطلق عليه الميتافيزيقا.
إن كل ما نراه في الحياة والوجود، يعود إلى شيء آخر غير مرئي، لا نصل إليه إلا بجهد الفكر، وهذا الشيء اللامرئي، سابق في وجوده على وجود الشيء المرئي والمعطى لنا. كان هذا الأساس والمبدأ الأول بالنسبة لأفلاطون هو عالم المثل، وبالنسبة لأرسطو هو الماهية، ولديكارت الأنا المفكرة، ولهيجل الروح المطلقة، وهذه فقط عينة عن الأسماء التي عملت ضمن هذا المشروع الميتافيزيقي الكبير. 
لقد خاض الميتافيزيقيون معارك طاحنة مع بعضهم بعضاً، بين أفلاطون وتلميذه أرسطو، ثم جاء ديكارت ووجه سهام نقده لأرسطو، وبعد ذلك حاول كانط أن يقوم بتشريح هذا العقل الذي ظل ملكة غامضة في فكر ديكارت، وفي الأخير ظهر هيجل الذي رأى أن كانط هو مثل رجل يريد أن يتعلم السباحة ولكنه يقف على الشاطئ، ومعناه أن علينا أن ندرس العقل في حركته التاريخية وصيرورته الزمانية، ولكن في جميع هذه الأحوال، فإن هذه المعارك كانت تدور على أرض واحدة، هي أرض الواحد المطلق، أرض الهوية المتماسكة، والفكر النسقي المنسجم في كافة منطلقاته.

الفلسفة كمجاوزة للميتافيزيقا 
كان علينا أن ننتظر طويلاً إلى غاية القرن التاسع عشر ومجيء نيتشه، حتى يتم تعريف الفلسفة تعريفاً مغايراً. تساءل هذا الفيلسوف: لماذا البحث عن الأساس الواحد؟ لماذا القفز فوق التنوع والكثرة التي تطبع الحياة؟ لماذا إهمال الحياة ذاتها، من أجل الحديث عن الماهية والهوية والجوهر، وكل المفاهيم الأخرى العزيزة على الميتافيزيقا. هكذا أصبحت الفلسفة مع نيتشة مشروعاً من أجل مجاوزة الميتافيزيقا صاحبة: «الآذان الطويلة، كما كان ينعتها»!
وبعد نيتشة توالت بقية المشاريع الفلسفية الأخرى، وما زالت إلى يومنا هذا تظهر المحاولات، التي تأخذ على عاتقها تقويض الميتافيزيقا ووضع نهاية لها. نذكر من هذه المشاريع، مثلاً، الفلسفة الوضعية مع أوجست كونت، والفلسفة التحليلية مع راسل وكارناب، والفلسفة الوجودية خصوصاً مع سارتر، وأخيراً هناك التفكيكية مع جاك ديريدا. 
لقد أصبحت مهمة الفلسفة، إذن، مع تيارات مجاوزة الميتافيزيقا، خصوصاً المدارس المنحدرة من نيتشة وهيدغر، هي تفكيك وهدم المطلقات التي قامت عليها الأنساق الميتافيزيقية الكبرى، بدءاً من اليونان وصولاً إلى فلسفة الأنوار، التي اتخذت صيغتها الكاملة مع هيجل. لقد أضحت الفلسفة محاولة للدعوة إلى الاختلاف، والانزياح عن المركز، وتحطيم للهوية والذاتية المطلقة والأصل، بل ولكل المفاهيم العزيزة على الفكر الميتافيزيقي. ولكن، هل فعلاً استطاعت هذه التيارات الجديدة التخلص من الميتافيزيقا، كما ادعت ذلك؟ لقد قامت هذه التيارات بجهود جبارة، من أجل مراجعة تاريخ الفلسفة الغربية، ولكن مع ذلك ثمة شكوك كبيرة، حول ما إذا كانت هذه المدارس قد حافظت مع ذلك، على بعض آثار Les traces الفكر الميتافيزيقي. 

تعريف مغاير
والآن، هل هناك من إمكانية لإيجاد تعريف مغاير للفلسفة؟ نعتقد أن الجواب سيكون بالتأكيد نعم، نحن في انتظار ولادة ثالثة للفلسفة. إننا نعرف اليوم ما يجب أن نحبه، إنه إنقاذ أنفسنا وإنقاذ الأرض. فالفلسفة التي نبحث عنها هي حكمة، ولكنها أيضاً قرار علينا أن نتخذه بخصوص المصير الذي ينتظرنا. لا يهم اليوم الانكباب على بناء الأنساق الفلسفية، ولا العناية بهدمها وتفكيك أسسها. لا يهم أيضاً ترصيص الهياكل الأيديولوجية العظيمة، أو تخطيك المذاهب والتيارات الفلسفية. ذلك أنه أمام انهيار البيئة، وتصاعد خطر التبلد والتطرف الديني، ومشاكل الانفجار الديموغرافي، والتهديد الذي يشهره الذكاء الاصطناعي في وجه الذكاء البشري، ثم هناك الفتوحات الكبيرة التي تقوم بها فيزياء الكم لتطوير وعينا بأنفسنا، والكشف عن روحانية الكون الذي نعيش فيه، كل هذا وغيره وجب أن يعلمنا درساً أساسياً، وهو أن التفكير في مستقبل الفلسفة رهين بالتفكير في ضرورة تأسيس فلسفة للمستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©