الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جدل المربّع والدّائرة

جدل المربّع والدّائرة
26 نوفمبر 2020 01:42

إنّ جوهر العمليّة الإبداعيّة في المجال الفنّي لأشبه بسعي ذوقيّ مُضنٍ من أجل مقاربة المجهول، سعي يفترض إعادة تهجّي الإبصار، لرؤية ما لم نعد قادرين على رؤيته، أي ما غدونا لا نبصره البتّة أو ما لم نعد نراه. وإعادة تهجّي الإبصار هذه، تفترض أن نعيد للنّظرة بريق الطّفولة العارية، أن نحدّق في عالم الحسّ من حولنا بأعين مغسولة، ونخلّص رؤيتنا للأشياء من ثيابها المهترئة.. الخلقة، فعبر عمليّة التجرّد تلك وحدها قد ينكشف اللاّمرئيّ في أبهى تجلّياته، وحينها قد يغدو بالإمكان عبور جسر الرّؤية نحو منحدر أحلام اليقظة. ولئن بقيت شفافيّة اللاّمرئيّ صعبة الإدراك وبالكاد تطال، فإنّه لمن الجوهريّ أن نخلّص العين من سطوة الرّؤية الشّائعة، من ذلك الجمود الخانق الذي يكبح انفلات الرّوح نحو الآفاق الرّحيبة.. الفسيحة، بعيداً عن كلّ جاذبيّة مضلّلة. غير أنّ مثل ذلك الانفلات الذي هو أشبه بـ«الرّقص على الحبل» فوق هوّة سحيقة، لا يتأتّى إلاّ لأكابر النّفوس، أي أولئك المتشبّثين -على حدّ تعبير الرّوميّ- بعين العيون، تلك العين المجنّحة التي تروم اختراق حجب المرئيّ لاستشعار الوجود اللاّمرئيّ. والشّاعر والرسام في ذلك.. سيّان، سواء بسواء، كلاهما يتطاول بأرجل مركوزة في الحيّز الماديّ للمكان.. إلى الآفاق القصيّة للّامكان. ولو استعنّا بالرّمز والاستعارة لمقاربة حقيقة ذلك الاختراق، لقلنا إنّ العبور من المرئيّ إلى اللّامرئيّ هو أشبه بعمليّة تردّد بين المربّع والدّائرة، ولكان ذلك العبور سيميولوجيّاً، تُقرأ فيه العلامة ويتمّ تعقّب دلالاتها عبر الإشارة، للظّفر برسالة قد تحمل معنى متكاملاً لرسم أو عمل فنيّ، أو تأليف موسيقيّ، أو بناية، أو صورة فوتوغرافية، أو فيلم سينمائي.

جدل الظّاهر والباطن
ولا فصل على المستوى الرّمزيّ بين المربّع والدّائرة، إذ غالباً ما لا يتمّ تمييز المربّع عن الدّائرة بوصفهما شكلين هندسيّين مكتملين، ولأنّه في الدّائرة تنطوي المضلّعات بما فيها المربّع. وفيما تكون الدّائرة، على خلاف المربّع، خالية من كلّ تقسيم أو ثنائيّة، ودالّة من حيث بروز المركز واختفاؤه، والتمدّد اللانهائيّ لمحيطها، على ما هو مطلق ولانهائيّ، يكون المربّع بزواياه وأضلاعه علامة على التّمايز والاختلاف، ويحيل تبعاً لذلك إلى ما هو مخلوق وترابيّ. ويعني ذلك أنّ الدّائرة تحيلنا بالنّهاية على ما هو سماويّ، فيما يحيلنا المربّع على ما هو أرضيّ، وأن التّفاعل بينهما يختزل الجدل القائم لدي أهل العرفان، بين الظّاهر والباطن، أو بين ما هو حسيّ وما هو مضمر وسريّ. ومآل النّفس المبدعة للفنّان كما هي روح المتصوّف، التردّد بين هذين القطبين، والإقامة في حيّز بينيّ يفصل المرئيّ عن اللامرئيّ، ذلك الحيّز الذي يدعوه الشّاعر الفرنسيّ سيرج فنتوريني بالعابر للمرئيّ.  في ذلك الحيّز يكون مقام الفنّان، الذي يمكث هناك متأمّلاً الجمال المبثوث في عالم الحسّ أو العالم المرئيّ، مترصّداً في الآن ذاته ذبذبات العالم اللامرئيّ، عساه يحظى بومضات نورانيّة منخطفة، فتتوارد عليه الأنوار وتنكشف له الأسرار.. حالة أوجزها ماريا ريلكه وهو يتحدّث عن ماهية الشّعر: «الشّعر.. طرق لأبواب المحال وتجاوز لنقب المكان والزّمان ورجمٌ لجدار العتمة كيما تنفتح بؤر من نور تكشف عن كينونة الإنسان».

اللّوغوس الكوني 
فلكأنّ الفنّ هو بهذا المعنى، اللّوغوس الكونيّ الذي ينتظم كيان العالم، في حركة قلق الوجود الإنسانيّ، عبر مدارات العصور، بل وكأنّه مهماز الفطرة الأولى، ومشيئة البعث المتجدّد، التي تتناول معطيات الوجود بمطرقة الإبداع وخيميائيّة الابتكار، حتّى مشارف تلك التّخوم العذراء، التي تتناهى في بياضها أطياف الرّؤى، وتنجلي في شفافيّتها صورة الأعماق.
أجل، هو الفنّ الذي يصنع للأشياء حقيقتها، وهو الجمال الذي توجد به الحقيقة بوصفها كشفاً، كما يعبّر عن ذلك هيدغر: «الفنّ إظهار للحقيقة، بعث شيء، جلبه بوساطة الوثبة المتدفّقة من جوهر الأصل إلى الوجود»، وذلك بالنّظر إلى أنّ العمل الفنّيّ عبر آفاق أنطولوجيّة ينطلق من كنه الذّات الخالصة حتّى التّماهي في أبديّة تلك اللّحظة الخلاّقة، التي تزاوج المفرد بتعدّده، وتمحق الجزئيّ بكلّيته، وتناغم بين الضدّ وضدّه، للوصول إلى ذروة التّطابق الفنيّ بين النّهائيّ واللانهائيّ، عبر تحوّلات التّشكيل الحيّ، لاصطفاء أيقونة المعنى التي صيّرها هيغل في وحدة عضويّة، هي «وحدة العنصر الطّبيعيّ والعنصر الرّوحيّ» اللّذين يؤلّفان باتّحادهما تمثيل المطلق. فعبر تجلّيات العالم اللاّمتناهية، يقف الفنّان في تأمّل برزخيّ لمعطيات الوجود، مأخوذاً بالصّاعقة كهيدب الأفق، مكابداً غصّة الفناء في هاوية التّناهي، ككائن لازمنيّ يروم الانصهار في رؤى الإشراق، وكوريث نبويّ لمفازات البراءة.

اللّحظة الإكسيريّة
وبالفنّ حدساً ورؤيا، كما يرى كروتشه، يصبح التّعبير والجمال كالفكرة الواحدة، التي نعبّر عنها بلفظين مختلفين، كأنّما بالعمل الفنيّ، نمتلك ذلك المعدن اللامرئيّ للوجود، أو نقبض على تلك اللّحظة الإكسيريّة لنقاء العالم، سواء كان ذلك بالإيماء المتناسخ في تجريد الكلمة، أو بالظّلال المتناغمة لمدارج الألوان، أو بتوثّبات الرّاقص المعتصر باللذّة والألم، بل وحتّى في فنّ العمارة، الذي قيل عنه بأنّه موسيقا متجمّدة، وفنّ التّصوير الذي يبدو للعين وكأنّه إيحاء شعريّ صامت، مروراً بالمسرح، كاهن الفنون جميعها.
حبّذا، ونحن نرتاد فضاءات الفنون، لو ذهلنا عن التّصانيف المألوفة والممجوجة للأعمال الفنيّة المقترحة، فلا نرى فيها غير تلك الأنوار الكامنة فيها والمنبعثة منها، ولا نلمس عبرها غير صورة الفنّان المأخوذ في دوار الإبداع ما بين المربّع والدّائرة، ما بين الحسيّ والمخفيّ، ما بين المرئيّ واللامرئيّ، فنغدو بذلك حقيقين بالصّورة التي رسمها ماريا ريلكه للشّاعر:
«نحن نحلات اللامرئيّ، بكامل اللّهف نجني عسل المرئيّ لنسكبه في قفائر اللامرئيّ الذهبيّة الكبيرة».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©