السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

يختصر علاقة الفلسفة بوجودنا.. الاعتراف أولاً

يختصر علاقة الفلسفة بوجودنا.. الاعتراف أولاً
3 ديسمبر 2020 04:10

أثمار عباس

قبل أن تُكمل قراءة هذا المقال، عليك أن تعترف! قد تبدو لنا هذه العبارة غريبة بعض الشيء، ولكن الفيلسوف الياباني هاجيمه تانابي أراد أن نفكر فيها وأن نأخذها على نحو جدّي. ويرى تانابي أننا إذا كنا نريد أن نتفلسف، فلا يمكننا أن نقوم بذلك إلا إذا اعترفنا أولاً. ولكن ما هو الأمر الذي يريدنا أن نعترف به؟ 
كي نُجيب عن هكذا سؤال، ينبغي أن نبحث في جذور فلسفة تانابي. ويمكننا إيجاد فلسفة تانابي في آثار كل من تقاليد فلسفتين، في تقاليد الفلسفة اليابانية وتقاليد الفلسفة الأوروبية أيضاً.
فيما يتعلق بالفلسفة الأوروبية يمكننا الرجوع إلى الوراء؛ إذ قرأ تانابي كتاب «الاعترافات» للقديس أوغسطين الذي مزج فيه بين سيرة حياته الذاتية والعمل الفلسفي. كما تفحّص تانابي أيضاً موضوع الاعتراف والتسامح مع الذات، وعلاوة على ذلك يمكننا تتبع مسار فلسفته عند الفيلسوف اليوناني سقراط. ومن وجهة نظر تانابي، فإن سقراط شخصية مهمة جداً وذلك لأنه كان صريحاً عندما اعترف بأنه يعرف أنه لا يعرف شيئاً على الإطلاق، وتنقصه أشياء كثيرة. 
ويعترف تانابي بأن الفلسفة تتعلق بطرح قضايا عميقة عن الحياة، وكي نفعل هذا لابد لنا أن نعترف بأننا لا نعرف الإجابة، وأن إمكانيات وعينا وإدراكنا محدودان، ولكي نكون متمكنين وقادرين على التفلسف، ينبغي علينا أن نعترف بذلك أولاً. 

  • أثمار عباس
    أثمار عباس

الرجل الأكثر حكمة
ووفقاً لتقاليد الفلسفة اليابانية، فقد أشارت العرافة «أوراكل» في «دلفي» إلى سقراط باعتباره الرجل الأكثر حكمة في أثينا، ولكن سقراط الذي كان متأكداً من جهله، حاول أن يثبت للعرافة «أوراكل» أنها على خطأ. وبعد محادثات لا حصر لها مع الناس في أثينا توصل سقراط إلى استنتاج مفاده، أنه كان في الواقع أكثر الرجال حكمة في المدينة، وذلك لأنه الوحيد الذي تَقبّل بأنه لا يعرف شيئاً. 

«التعاطف» و«الحكمة»
وتعود الجذور اليابانية لفكرة تانابي إلى الراهب البوذي شينران، الذي كان ينتمي إلى مدرسة البلد النقية، التي جمعت بين كانون «kannon» أي التعاطف وسيشي «seishi» أي الحكمة، وقد ادعى الراهب شينزان أن التنوير مستحيل في حد ذاته، أي أنه من الصعب البحث عن التنوير بمفردنا. وبدلاً من ذلك، ينبغي أن نعترف بجهلنا وحدود إمكانيات عقولنا، حتى نتمكن من الانفتاح على ما يسميه كل من شيزان وتانابي بـ«تاريكي»، أو ذلك الذي يطلق عليه «قوة خارجية أخرى». 

إيمان مفتوح
وفي مدرسة البلد الخالصة، فالقوة الأخرى هي الإيمان ‏المُحِبّ الخالص، الصافي، النقي، المكرس في «بوديساتفا أميدا»، وهي القيم الأهم في المدرسة. أما بالنسبة لفلسفة تانابي، فإن الاعتراف يؤدي إلى إيمان مفتوح من الاعتراف بـ«ذلك العدم المطلق» وفي النهاية يؤدي إلى حالة اليقظة والتنوير، وصولاً إلى الحكمة. 

مسار للتفكير
وفقاً لمنظور تانابي، فإن الفلسفة لا تتعلق بمناقشة تفاصيل صغيرة ضمن إطار المنطق، أو هي ليست مصطلحات وجدالات أو مناظرات وتلك الأمور التي ليس لها أساس عقلاني. إن الفلسفة في الواقع هي مسار للتفكير المنظم والتعمق في القضايا التي تهم وجود الإنسان ذاته. وبالنسبة لتانابي فهي أكثر جوهريةً من هذا كله. وحسب رأيه، فإن الفلسفة عبارة عن عملية ربط، ربط أعمق معنى ممكن بأنفسنا، لقد نشأت هذه الفكرة جزئياً أثناء قراءته للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، حيث كتب هايدغر أن الفلسفة مسألة لها علاقة بوجودنا، وكما أوضح هايدغر بأننا كائنات ينبغي تحليلها ودراستها بدلاً من السعي وراء الميتافيزيقا. 
ويعتقد تانابي أنه فقط من خلال الاعتراف، يمكننا أن نكون قادرين على إعادة اكتشاف أنفسنا الحقيقية، وهي عبارة عن عملية يصفها بمصطلحات دينية، كنوع من الموت والبعث وعودة الحياة. وهذا الموت والبعث وعودة الحياة من جديد هو أيضاً عودة ولادة الذات من جديد من خلال «قوة أخرى»، وهي تنتقل من رؤية محددة لـ«الذات» إلى منظور مستنير. 

إطلاق سراح الأنا
ولكن هذا التغيير ليس مجرد تحضير وإعداد للفلسفة بل على العكس، إنه عمل الفلسفة نفسها، التي لها جذورها في التشكيك وفي «التخلي عن أنفسنا من أجل تلك القوى الأخرى» وبمعنى آخر، أن الفلسفة ليست ‏نشاطاً حيوياً ننخرط فيه، وإنما هي شيء يحدث فينا، داخل أنفسنا، فنحن عندما نتمكن من الوصول إلى ذواتنا الحقيقية من خلال إطلاق سراح الأنا، والتخلي عن الذات -وهذه «الفينومنا» أي الظاهراتية يسميها تانابي «القيام بفعل أو التصرف دون كيان ناشط». 

الاعتراف المستمر
ويكتب تانابي أن الاعتراف المستمرّ الدائم هو «النتيجة القصوى» إلى الحد من حدودنا، أن تقييم اعترافاتنا وتقديرها هو الذي يدفعنا إلى الموافقة على الاعتراف بحدودنا الخاصة. وبعبارة أخرى، لا يحاول تانابي حثنا لإيجاد إجابات جديدة للأسئلة الفلسفية القديمة، ولكن أن نقوم بإعادة تقييم طبيعة الفلسفة كلها. 
يقول تانابي: كي تصبح أي مسألة فلسفية -مشكلة- ينبغي أن تكون مسألة غامضة يتعذر علينا فهمها، وعندها يمكن دراستها وتفحصها. 
بقي أخيراً أن نشير إلى أن الفيلسوف الياباني هاجيمه تانابي من مواليد طوكيو عام 1885، وقد توفي عام 1962. وفي ألمانيا درس فلسفة كل من الفيلسوف إدموند هوسرل ومارتن هايدغر. لقد عاش تانابي أهوال الحرب العالمية الثانية وتأثر بها بعمق، وعندما انتهت الحرب توقف عن العمل في تدريس الفلسفة، حيث تقاعد وكرس وقته للتأمل والكتابة. وهكذا، بهذا المعنى ولكي نتمكن من المعرفة والفلسفة ينبغي علينا الاعتراف، فإن التأمل والاعتراف بإمكانياتنا المحدودة جزءان أساسيان في علاقة الفلسفة مع وجودنا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©