الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مفارقات وقت الفراغ

مفارقات وقت الفراغ
24 ديسمبر 2020 00:42

وقت الفراغ هو الوقت الذي ننتظره بفارغ الصبر، ننتظره على تخوم الوقت وحواف الزمن، على أعتاب البدايات ومشارف النهايات، عند غروب النهار، انتهاء الأسبوع، انقضاء العام، وانفراط سنوات العمل، ننتظره في ذروة الانشغالات وغمرة الانتظارات، ولكنه ما أن يأتي حتى يجثم علينا بكلكله الثقيل، ويخيفنا بوجهه القاتم، فنودّ الهرب منه بأي ثمن، وأحياناً مهما بلغ الثمن، وقد يكون الثمن حماقة نخسر فيها الكثير.
وقت الفراغ هو ما نسعى إليه حين يغيب ثم نخشى منه حين يحضر، نعمل من أجله حين نعمل ثم لا نعلم ما نعمل فيه حين لا نعمل، نشترطه أثناء توقيع عقد العمل ثم نفرط فيه عند انفراط مدّة العمل، نحرص على الحصول عليه سريعاً ثم سرعان ما نحرص على التخلص منه.

وقت الفراغ هو ما نرجو مجيئه لكي نرتاح من ملل كثرة الأعمال ثم نستعجل رحيله لكي نرتاح من ملل انعدام الأعمال.
أن نفعل الشيء نفسه كل يوم فهذا باعث على الملل، لكن أن لا نفعل أي شيء طيلة اليوم أو طوال الأيام، فهذا باعث على ملل أشد إيلاماً للنفس. وإن كان ملل تكرار الشيء شاقاً فإن ملل اللاشيء أشد مشقة وشقاء.

الحلقة المفرغة 
أحياناً نلجأ إلى تغيير الكلمات أملاً في تغيير المشاعر. مثلاً، نسمي وقت الفراغ بالوقت الحر، أو الزمن الحر، طالما بوسعنا أن نفعل فيه ما نشاء، أو هكذا نظن، فنكافح من أجل توفيره قطعة قطعة، ولكننا ما أن ننعم بوفرته حتى ندرك أن تدبير الزمن الفارغ لا يقدر عليه إلا الحكماء، وحكماء القوم قليلون. 
وقت الفراغ مثل الليل الذي ننتظر حلوله بشوق الحالمين، ولكننا في جوف الليل نشعل الضوء لكي نطرد العتمة. 
وقت الفراغ مثل لحظة النوم الليلية، ننتظرها بزهو الأطفال ثم نسهرها بعصيان المارقين!
ننتظر وقت الفراغ لكي نستردّ سيادتنا على أنفسنا من قبضة الانشغالات، ونتوقع أننا في وقت الفراغ سنفعل ما نشاء، وقتما نشاء، وكيفما نشاء، ثم لا ندري ماذا سنفعل؟ والأدهى أننا لا ندري لماذا يكون علينا دوماً أن نفعل شيئاً ما؟ 
لماذا لا نهنأ بهدوء وقت الفراغ طالما نطلبه؟
تدفق الزمن
في وقت الفراغ تنكشف حقيقة الزمن على النحو التالي:
يحدث في وقت الفراغ أن يتدفق الزمن دون أن يَحدث أي شيء، هنا يكون تدفق الزمن هو الحدث، بل هو الحدث المطلق والمجرد عن سائر الأحداث الأخرى، أو هكذا يبدو واقع الحال. تدفق الزمن هو التدفق الوحيد الذي لا يعرف الفيزيائيون كيف يحسبون سرعته رغم أنه معطى فيزيائي بالأساس؛ والسبب في ذلك هو عدم وجود إطار مرجعي يمكن الاستناد إليه لحساب «سرعة الزمن». يشبه الأمر أن نكون داخل قطار مكوكي مغلق بلا نوافذ، يسير في الفراغ المطلق، لكننا لا نملك أي إطار مرجعي يتيح لنا قياس سرعته طالما لا نستطيع الوجود خارجه، ولا النظر إلى الخارج، بل لا نستطيع الادعاء بأن الزمن يتحرك إلا مجازاً طالما لا يمكننا الحكم على شيء ما بأنه يتحرك إلا استناداً إلى شيء آخر أو أشياء أخرى تمثل إطاراً مرجعياً لتحديد الحركة والسرعة والاتجاه. 
من منظور الوجود المادي للأشياء لا يوجد أي يقين حول ما إذا كان الزمن يتحرك أم لا؟ لكن من منظور النفس البشرية يبقى تدفّق الزمن حدثاً فعلياً، بل هو ما يحدث بمعزل عن سائر الحوادث كلها. الزمن يمر مسرعاً، ولا ندرك مروره إلا عبر الآثار الذي يخلفها في الذاكرة، وهي آثار تولد الحزن في الغالب؛ ذلك أن الذكريات الجميلة تترك حنيناً حزيناً إلى المفقودات، والذكريات القبيحة تترك ندماً حزيناً على المتروكات، وإن لم توجد أعمال تُنجز أو حكايات تُروى فهو فراغ يترك جرحاً غائراً في الروح. ولكن لماذا يترك الفراغ مثل ذلك الشعور؟
عندما يمرّ الزمن في الفراغ نشعر كأننا داخل لحظة يتم اقتطاعها لحساب الفناء، لكنها تُقتطع ببطء يفاقم من حدة الألم. لربما كان الإمام الشافعي بليغاً في توصيف الوقت بأنه «كالسيف إن لم تقطعه قطعك». الزمن سيف حاد يقتطع لحظات الفراغ التي لا نفعل فيها ما يستحق الاهتمام، وكل ما نرجوه ساعة القطع أن يكون القطع سريعاً حتى يكون أقل إيلاماً. لأجل ذلك قد نصرف المال أحياناً لكي نضيع وقت الفراغ الذي سبق أن صرفنا المال لأجل توفيره، وتلك مفارقة أخرى.
 
انكشاف الفراغ 
الزمن الفارغ مثل المكان المقفر الذي تأباه النفس وتنفر منه، لكنه يجسد المعنى الحقيقي للمكان، المكان المجرد عن الأشياء والمثير لمشاعر الوحشة الرهيبة. كذلك هو الوقت الفارغ باعتباره زمناً مقفراً لا يتحمله الإنسان، غير أنه يمثل المعنى الحقيقي للزمان، الزمان المجرد عن الأحداث والذي يثير بدوره مشاعر الوحشة الرهيبة. ولذلك يمثل السجن الانفرادي العقوبة الأشد قسوة طالما يضع السجين في مواجهة زمن فارغ من الأحداث ومن الحكايات، وبحيث لا ينجو من تلك المحنة غير الحكماء.
المكان الخاوي موحش، والزمن الخاوي بدوره موحش، وهما يكشفان حقيقة الوجود الذي ليس سوى فراغ يملؤه الإنسان بالأعمال، ثم يكمل الفراغات بالحكايات.
لعل الدليل الوحيد على أن الزمن يتدفق بسرعة فائقة هو أننا في حياتنا اليومية لا نملك كثيراً من الوقت لكي لا نفعل أي شيء. حين لا نفعل أي شيء يمر الزمن في الفراغ المهيب. 
ثم ماذا يحدث أثناء ذلك؟
الفراغ موحش بالفعل، وإن كان يقدم للبعض فرصة سانحة لأجل التأمل الهادئ، إلا أنه كفيل بإثارة المخاوف الوجودية الكامنة في الوجدان: الخوف من الصمت، الخوف من الظلام، الخوف من الخواء، الخوف من الوحدة، والخوف من الفناء في النهاية.
الفراغ هو الصمت الذي يوقظ كل العواصف الكامنة في الذات.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©