الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الوباء.. تحدٍّ قابل للتطوّر

الوباء.. تحدٍّ قابل للتطوّر
31 ديسمبر 2020 01:07

ترجمة: أحمد حميدة

«حين يشيع الخوف كحالة انفعاليّة قاهرة بين النّاس، فإنّ حريّة الاختيار لديهم، التي هي صفة جوهريّة مركّبة فيهم، غالباً ما تميل إلى التّراجع والتّضاؤل». 
أبعاد كثيرة تتقاطع وتتشابك في وباء كورونا. وإن لم تكن تلك الأبعاد سلبيّة في المطلق، فإنّ جميعها يسلمنا بصورة فرديّة أو جماعيّة إلى تحدّ قاس وحقيقة مرّة، وهي أنّ الفيروس الضّئيل لهذا الوباء خلّف فينا ورغماً عنّا، إحساساً حادّاً بالإحباط. فلأوّل مرّة في تاريخ البشر، وبعيداً عن كلّ الانتماءات القوميّة أو الطّبقيّة، يجد المرء نفسه بغتة أمام خطر لا مرئيّ ينبئ بمصير ملتبس وغير مطمئن.
المفارقة الأولى التي يثيرها تفشّي داء كورونا: في زمن المدّ الإعلامي، ما غدا يضعنا وجهاً لوجه مع شبح الموت ويزعجنا إلى الحجر القسريّ، هي محض شذرات من إعلام مجزّأ، يستمدّ مادّته في جزء كبير منه ممّا بات متعارفاً لدينا، ويستحثّنا ذلك الإعلام إلى الاعتصام بأماكن مطمئنة، ليظلّ رجع صداه مستعاداً ومكرراً، إنّه ذلك الإعلام الذي يجترّ الإفادة بأنّ وباء الكورونا ليس بالوباء شّديد العدوى ولا بالوباء القاتل، وأنّ انتشاره لا يعود إلى وجود «كائن حيوانيّ دقيق»، وإنّما إلى انحراف ما، بات البشر قادرين على التّلاعب به بصورة مفرطة ودونما رقيب: الإعلام!.. الإعلام بما يتأتّى له اليوم من أسباب السطوة والشراسة.
أمّا الأمر الثّاني الذي ينبغي أن يستوقفنا، فهو أنّ تفشّي هذا الوباء، والإخبار عن الفيروس وما يسبّبه من خراب، كما الأجوبة الطّائشة التي تروّج عنه هنا وهناك، سرعان ما باتت تجد لها رواجاً مكثّفاً بين النّاس، حتّى غدا الجميع يتعقّب أخبار الوفيات والمصابين، تعقّبه للأخبار اليوميّة. وها قد أصبحنا اليوم ننعم بمستوى إعلاميّ «رفيع» يسمح لنا باتّخاذ القرارات في مستوى القمّة، ولكنّنا نظلّ في مستوى القاعدة خاضعين لتأثير عدوى إعلاميّة مفرطة.

اللّغة العدوانيّة
يبدو أنّ «الإعلام» المنشور، وخاصّة اللّغة العدوانيّة التي يعتمدها، يفضي بالضّرورة إلى تداعيّات سلبيّة ومحزنة: استقطار مكثّف للخوف وتوليد موقف «دفاعيّ» ثابت لدى النّاس يجعل ذلك الخوف أشبه بحالة انفعاليّة وعصابيّة مطوّلة. ويؤدّي هذا الخوف دوره في إبقاء النّاس على قيد الحياة حين تكون الحياة مؤقّتة ومحدّدة، فيحفزنا ذلك إلى الدّفاع عن أنفسنا للفرار من خطر داهم ووشيك. غير أنّ ذلك الخوف غالباً ما يصبح سامّاً متى حلّ على شكل انفعال قسريّ لمواجهة خطر موصول ودائم. ويكون تأثيره في هذه الحالة موهناً ودافعاً إلى الانقباض والإرباك، إذ عامّة ما يصيبنا بالكآبة ويولّد لدينا الإحساس بعدم الأمان. ذلك أنّ حضور الخوف متى أصبح في حياتنا أمراً طبيعيّاً، فلا بدّ له من أن يستنزفنا... 
وغالباً ما تكون لتطبيع الخوف، بالمعنى الأنثروبولوجي، آثار رجعيّة، وقد نقول «ارتدادية». ولئن كانت النّظريات عديدة ومختلفة بصدد ما نسمّيه نحن «التطوّر»، فإنّه لمن المسلّم به أنّ تغيّر المكوّنات الحيّة في مثل تلك الحالات، غالباً ما يميل إلى التعقّد وينمّي لدى الأفراد توقاً متزايداً إلى حالات الاكتفاء الذّاتي، وذلك في الإطار العامّ لتنظيم ذاتيّ شامل يتمّ وفق توجّهين أساسيّين: إما التكيّف مع الواقع المعيب وإمّا الحريّة. وفي ما يتعلّق بالجنس البشري، قد نرى علامات التطوّر في: التشبّث بالحريّة، الإحساس بالمسؤوليّة، التّواصل مع الآخرين، التّشاعر والتّعاطف مع الغير، الثّقة بالنّفس والبحث عن سمات تفرّدنا بوصفنا كائنات يسري في أعماقها نبض الحياة.

توازن مختلّ
ما بين الكوفيد- 19 وإجراءات الحجر المطوّل التي تغذّيها مشاعر الخوف، يكون التّوازن التطوّريّ الهشّ، بين الحريّة من ناحية والقدرة على التكيّف من ناحية أخرى، قد اختلّ. وبوازع من ردود أفعالنا العاطفيّة، تغدو أجسادنا - وهي مقياس الضّغط لدينا - خالية من الإحساس، متعبة، فتصاب وظائفنا الحيويّة بالتعطّل، وتغدو أجهزتنا المناعيّة قاب قوسين أو أدنى، وفي غمرة ذلك الاختلال، سوف يصاب المسنّون بمشاعر الإحباط والشبّان بالذّعر، فيما سيرتبك إيقاع النّوم والاطمئنان لدى الجميع، ويتزايد تبعاً لذلك إقبال المصابين على استهلاك الأدوية المضادّة للقلق والاكتئاب.
ومن وراء الخوف كانفعال أساسيّ، تتنامي أيضاً هلوسات الخيال وحالات الهذيان، فتتّخذ في البداية شكل مخاوف تأسّليّة تنعش نزعة الرّجوع إلى الأصل والعودة إلى صفات الأسلاف، وقد عرفت الإنسانيّة في ما مضى جوائح متتالية خلّفت في ذاكرتنا الجماعيّة جراحاً غائرة، لا تني تنفتح داخل كلّ واحد منّا كلّما حلّ الوباء وانتشر البلاء. ووفقاً لرأي المؤرّخ «يوفال نواه هراري»، نحن نجرّ وراءنا كجنس بشريّ ثلاثة مخاوف منذ البدايات الأولى للخلق: الخوف من الحيوانات الضارّة (طالما أنّنا ننزل من على الأشجار للبحث عن الغذاء)، الخوف من المجاعة (أثناء انتشار الجفاف والفيضانات)، والخوف من الوباء (فمنذ الجراح السّبعة، وضعتنا الأوبئة وجهاً لوجه مع حقيقة صادمة: إمكانيّة العدوى والمرض والموت).
وينبغي أن نضيف إلى القائمة اليوم خوفاً مستجدّاً، ألا وهو الخوف من الترقّب والارتياب. والحال أنّ القبول بذلك الارتياب وبما لا يمكن التنبّؤ به، يميل إلى نسف أساسات فرضيّاتنا الوجوديّة، التي ظننّاها لفترة طويلة بمثابة مسلّمات ثابتة. فأنموذج الحداثة الذي بتنا نتعلّق به، جعلنا نعتقد أنّنا نعيش في عالم مستقرّ وراسخ الأركان، ثابت وطبيعيّ، عالم يمكن التنبّؤ بمستقبله، عالم يضمن لنا الوثوق في أفكارنا ويقينيّاتنا وفي قدرتنا على مراقبة الأشياء والتحكّم فيها، عالم غذّى فينا الوهم بأنّنا قادرون على بلوغ أهدافنا بمجرّد ارتهاننا للعقل وإرادة القوّة الكامنة فينا. وذلك في الحقيقة وهمٌ.. يمضي كما تمضي الأيّام، ولكنّنا.. وبشكل مفارق نظلّ بوحي من عواطفنا، متشبّثين به.
فكيف لنا ألا نمعن في فعل ما نحبّه ونؤثره وخطّطنا لإنجازه، كأن نسيح في الأرض ونسافر ونتعاطى مع جوهر الحياة النّابضة فينا؟ لقد باتت ذواتنا تستصرخنا.. وتصيح وهي مثخنة أن كفى ثم كفى! فلعلّ الكوفيد- 19 هو الفرصة المتاحة لنا كيما نتوقّف ونمعن النّظر ونستغرق في التّفكير، فرصة كيما نقبل على تغييرات ما فتئنا نتجنّبها، ولم يعد بالإمكان اليوم تأجيلها. وإلاّ.. فلسوف تصادفنا فيروسات أخرى وتضطرّنا على نحو أكثر صرامة، إلى طرح الأسئلة الجوهريّة، فنأسف حينها على ما قد ولّى وانقضى.
على ضوء فرضيّة التطوّر والتقدّم، قد ندرك أنّ الترقّب يحجب عنّا خوفاً أكثر حدّة، خوف غامض ومتفلّت عن وعينا، يضعنا أمام تحدّي أن نلوذ بشكل مسؤول بإحدى صفاتنا الأكثر جوهريّة بوصفنا بشراً: حريّة الاختيار، ذلك أنّ كلّ وضعيّة ملتبسة تضعنا حتماً أمام خيار قاس: إمّا أن نتوقّف ونقرّر أو أن نمضي في حال سبيلنا. والضّغط والقلق المنجرّان عن مثل تلك الحيرة، غالباً ما تنتج رغبات ارتداديّة تقضي، إمّا بالبقاء عند حافّة الشكّ، أو طرق مسلك العودة إلى وضعيّات أكثر طمأنة.
بالنّسبة للكثيرين يكون من الأيسر التّنازل عن مسؤوليّتنا في الاختيار، أن نعثر على أب أو زوج أو حكومة أو طبيب.. يسدينا النّصيحة فيحدّد من جديد وجهتنا. وبالنّسبة لآخرين من الذين يرومون التسلّط، تكون الغواية لاستخدام هذه الوسيلة لفرض سيطرتهم على من يقبلون الإذعان للأمر الواقع. وقد أطلق عالم الاجتماع والكاتب شوشهاما زربوف تسمية «رأسماليّة المراقبة» على هذه المرحلة الجديدة للمنظومة القائمة، التي أصبح فيها الغزو الرّقمي قادراً على تحويلنا إلى مجرّد أكوام من المعطيات القابلة للتّسويق. ولا مهرب من هذا المصير بغير الممارسة الواعية لحرّيتنا في الاختيار. وثمّة أنموذج يكشف عنه الكوفيد- 19 في جميع أنحاء العالم.... فحيث أفضت إدارة الوباء إلى نتائج أفضل، يكون ذلك قد حدث في البلدان التي اعتمدت فيها الحكومات على خليط من الحجر الذّكيّ، القائم على الاختبار والمتابعة والارتهان خاصّة إلى المسؤوليّة الفرديّة وحريّة الأفراد في اتّخاذ إجراءات الوقاية التي تأمّن سلامتهم وعفاءهم الصحّي.

أن نغيّر وجهتنا
إنّ طريق التقدّم محفوفة دوماً بغوايات رجعيّة أو بانعطافات قد تقود إلى اللاّ كان. ولعلّ الإنسان قد اقتحم بعدُ أحد تلك المنعطفات مدفوعاً إلى ذلك بحاجته الجامحة إلى السّيطرة والاحتيال، متوهّما بأنّه لا حدّ لسلطته. كما يبدو بأنّ الكوفيد- 19 جاء ليستحثّنا على تغيير أسلوب حياتنا، وطرائقنا في ربط علاقاتنا مع الآخرين. لعلّه جاء أيضاً لينبئنا بضرورة تحمّل مسؤوليّة أعمالنا، لأنّه لا شيء منذور للبقاء: فذخر الطّبيعة إلى نفاذ، ولا منعة للجسد من المرض، ولا يعني النموّ اللاّمحدود بالضّرورة أنّنا نتقدّم. فلا شكّ حينئذ، في أنّ هذا الفيروس لا يترجم فحسب عن ضرورة صحيّة مستعجلة، وإنّما عن ظاهرة صحيّة استعجاليّة قابلة للتطوّر. فمنذ 40000 سنة أدرك الجنس البشري وضعيّة إلى حدّ ما قارّة، وضعيّة «الإنسان العاقل» (هوموسابيانس).. الإنسان الذي يعرف بأنّه يعرف. ولكنّ ما يبدو أقلّ وضوحاً، هو أنّ عمليّة «التّجانس» مع الآخر تلك، اقترنت دوماً بعمليّة «أنسنة» موصولة ومستمرّة. ويتعلّق الأمر بضريبة لم تدفع بعد، أو بطريق مفتوحة تمثّل فيها أزمة الكورونا فرصة سانحة للاختيار. فنحن نتواجد اليوم عند مفترق طرق متشعّبة، ولا بدّ لنا من الاختيار، بتحدّي ما كان يمثّل أحد مخاوفنا الكبرى، الذي استشعره إيريك فروم منذ عقود: «الخوف من الحريّة». فأيّ السّبل قد تجعلنا أكثر إنسانيّة، أكثر وعياً ومسؤوليّة، أقلّ قلقا وتبعيّة، وبالتّالي أكثر قدرة على رفع التحدّيات التي بها نستعيد أصالتنا ونقاء كينونتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©