الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عام القطيعة والتحولات

عام القطيعة والتحولات
31 ديسمبر 2020 01:07

«ما نتعلمه إبان الجائحات، هو أن ما يثير الإعجاب لدى البشر، أكثر مما يبعث فيهم على الاحتقار»، أ. كامو، الطاعون.
يميّز مؤرخو العلوم بين مفهومين عن الانفصال: مفهوم القطيعة Rupture، والمفهوم الذي يطلقون عليه إعادة السبك Refonte. القطيعة هي لحظة انفصال العلم عما قبل تاريخه. لحظة قيام العلم. قيام الفيزياء عند غاليليو كان انفصالاً عن طبيعيات أرسطو، ونحتاً لمفهوم جديد عن طبيعةٍ تتكلم مثلثات ومربّعات. كان قطيعة. حينما قامت الفيزياء كعلم عرفت فيما بعد لحظات أساسية ومنعرجات أعادت فيها النظر في بعض مفهوماتها، ودقّقت مناهجها وأدواتها التقنية، ووسّعت مجالات بحثها، ووظفت رياضيات ما فتئت تتطور. وهكذا أخذت تعيد سبك ذاتها.
لو أردنا أن «نؤرخ» للسنة التي نودّعها، ونَصِفَ ما عرفته من تحوّلات كي نستشرف المستقبل، فأيّ  واحد من هذين المفهومين سنستعير بحيث يكون أليق للقيام بذلك؟ ربما لا يكفينا هذه المرة ما تعوَّدنا عليه عند نهاية كل سنة من تقويم للحصيلة، وتحديدٍ للمنجزات ورصد للتعثرات، ورسم للتطلعات. ذلك أن السنة التي نودّع لم تكن فحسب سنة إضافات كمية، ولم تقتصر على إعادة ترتيب أمور سبق أن رأيناها، أو على الأقل تعاملنا معها، وإنما كانت بحقّ سنة تحولات جذرية على مستويات متعددة، إلى حدّ أننا يمكن أن نقول إنها شكلت قطيعة جبّت ما قبلها، وأعادت النظر في كثير من الثوابت.
ما طبع السنة كما نعلم هو جائحة كورونا التي كشفت لنا ما كنا نجهله عن أنفسنا. أو لنقل إنها عرت أوهامنا عما كنا نظن أننا عليه. تتساوى في ذلك أغنى الدول مع أكثرها فقراً، ويتكافأ أكثرها حداثة مع أعرقها تقليداً. 
أوّل مظاهر الانفصال إعادة النظر في مؤسسات كان يتعذر علينا أن نتصور أننا يمكن أن نستغني عنها، أو أن تتغير علاقتنا بها بشكل جذري، مثل المؤسسة التعليمية والمؤسسة الإدارية. صحيح أن تطوّر أدوات الاتصال وتحوّل مجتمع المعرفة كانا ينبئان بأن مثل هذه المؤسّسات لن يبقى على ما هو عليه، وأن صيغاً أخرى له في طريق التكوّن. غير أن الجائحة، وما فرضته من «حجر صحي» في مختلف أنحاء العالم، عجّلت بذلك التطور وعمّمته، فاقتنع الجميع أننا يمكن أن نتعلم من غير أن نتنقَّل إلى مدارس، وأن نعمل على مسافة من الإدارات.
مظهر آخر للانفصال تجلّى في خلخلة أخرى أصابت الثقة التي كانت توضع في المعرفة العلمية. حيث تبيّن أن العلم لم يعد يتمتّع بالمصداقية التي كان يتمتع بها. أكبر شاهد على ذلك كثرة الحديث عن اللا يقين العلمي التي صاحبت ذيوع الوباء. قد يُردّ على ذلك أن مسألة اللا يقين لم تكن في حاجة إلى وباء كي تُؤخذ عند العلماء بعين الاعتبار، إلا أن ما ترتّب عن الجائحة هو نوع من عدم الثقة في المعرفة العلمية بمجملها، إذ ظهر للجميع أن العلم ذاته خاضع لتضارب التأويلات، وأنه عرضة لاختلاف الآراء. ما حدث بعد ظهور الفيروس هو أن المعرفة العلمية، في شكل العلوم الطبية على وجه الخصوص، قد فقدت شيئاً من هيبتها فأصبحت حديث الجميع، أصبحت من قبيل «بادئ الرأي»، فصار بإمكان الجميع أن يدلوا بدلوهم فيما يخص طبيعة هذا الفيروس، ونجاعة هذا الدواء أو ذاك. وقد أسهمت في ذلك مختلف وسائل الاتصال. 
وسائل الاتصال هذه هي التي كانت من دون شك «المستفيد» الأكبر من هذه الجائحة. فقد كشفت أنها هي المنقذ المعوَّل عليه في تخفيف حدة ما نزل. إنها يسّرت كل شيء، يسّرت التعليم عن بُعد والعمل عن بُعد، إلا أنها ساهمت أساساً في فكّ العزلة عن مستعمليها، فجعلت الأفراد لا يفقدون القدرة على التعبير، حتى إن كانوا قد فقدوا القدرة على الحراك، ومكّنتهم بالتالي من أن يسهموا في أخذ القرارات الأساسية لتدبير الفاجعة. لا يعني ذلك أن جهاز الدولة فقَد كل مبادرة. العكس هو الصحيح. ذلك أن الدولة قد عرفت هي كذاك تحوّلاً عميقاً. فقد أنعشت الجائحةُ مكانةَ الدولة وبيّنت أنها ما زالت هي راعية حياة المواطنين، وأنها المسؤولة عن الحياة الجماعية في كل أبعادها. فعلى عكس ما كان النموذج التّنموي السّائد يعطيه من أولوية للمصلحة الاقتصادية، تبيَّن أن الهاجس الأول للمواطن هو الهاجس الصحيّ. فهو ينتظر من الدولة أن تحميه. وبدل أن ينظر إليها أساساً كجهاز يوفّر الشغل وإنتاج الخيرات، فإنه أصبح ينتظر منها أن تحمي صحته، إلى حدّ أنه أصبح مقتنعاً بالتضحية بالمصلحة الخاصة من أجل المصلحة العامة، خصوصاً أن الفيروس كان يثبت لحظياً أن سلامة كل مواطن متوقفة على سلامة المواطنين جميعهم.
نلمس هنا التحوّل العميق الذي خلّفه الفيروس ليس على الأفراد هنا وهناك، وإنما على الوضعية البشرية برمتها. إنسان آخر تولَّد عن الجائحة. لم يعد الإنسان هو هو، سواء في علاقته بالآخرين، أو بالمؤسسات الاجتماعية، أو حتى في علاقته بالوجود. كان للجائحة، ككل ما يترتَّب عن تجدّد العلاقة بالموت، وقعٌ شديدٌ على «الوضع» الأنطلوجي للفرد ذكَّرنا بما كانت شخوص رواية الطاعون لألبير كامو تطرحه من أسئلة. لا عجب أن ترتفع مبيعات تلك الرواية عند الجائحة بشكل مدهش، سواء في فرنسا أو في إيطاليا. فهي كانت تصوِّر مختلف أشكال ردود الفعل إزاء الشر. بحلول الجائحة، أصبحنا نلمس عن قرب ما جاء على لسان تارو من «كون الوباء قضية الجميع»، وكون «الطريق الوحيد، لضم الناس، بعضهم لبعض، هو أن يُسلّط عليهم الطاعون». لقد أتاحت لنا الجائحة الفرصة كي نتعرف على أشباه الدكتور ريو، بطل الرواية، الذين يصارعون الشرّ في أشد مظاهره قسوة، باذلين تضحيات منقطعة النظير. وجد كل منا نفسه في مواجهة الموت بصور متنوعة، وبالتالي في مواجهة معنى آخر للحياة، ولمكانة الإنسان على وجه البسيطة، كما ألفى نفسه بين عشية وضحاها في تورّط مع الآخرين. وأدرك أن نجاته متوقفة على نجاتهم، مرهونة بتصرفاتهم، كما اقتنع أن مواجهة الشرّ هي دوماً، وستظل، «قضية الجميع».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©