الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رصيد الأمل لعشرية قادمة

رصيد الأمل لعشرية قادمة
31 ديسمبر 2020 01:07

ما من شكّ أنّ المجتمعات العربية قد مرّت بعقدٍ زمنيٍّ عسير جابهت فيه مصاعب جمّة، تحالفت فيها إرادات هوجاء مع سخط الطبيعة العمياء. ولا تزال عقابيل ذلك العقد الثقيل تلقي بظلالها على وقائعنا ومصائرنا، وعلى أحلامنا وتطلّعاتنا، ونحن نطلّ على عقد جديد.. ونقدّر أن الواقع العربي في حاجة إلى رصيد هائل من الأمل بقصد بثّ روح التحفّز، أو لنقل بعبارة الفيلسوف فتحي التريكي، لوعي روح التاريخ في الحضارة العربية الإسلامية، بدافع الخروج من الأزمات العويصة. وهو ما يقتضي السير ضمن مسارات ثلاثة: شحن الفرد بنظام يعيد تنظيم العالم لديه بمنظور إيتيقي كوسمولوجي، شَقّ شبكة دروب وطرقات مخطّطة ومراقبة، إعادة هيكلة الزمنية المتّسمة بالانفتاح والتنوع.
فحين نتحدّث عن رصيد الأمل، نقصد بذلك خوْض المسارات الجريئة التي يعانق فيها الفكرُ العقلانيةَ والعلميةَ والواقعيةَ، بعيداً عن التهور الكاذب والاعتداد الزائف. إذ رغم وطأة العقد السالف تراكمت إنجازات قيّمة، بدت جلية في عالم الثقافة، وهي ممّا يقتضي التأمّل والمراجَعة والمداوَمة. جاءت تلك الإنجازات في مجالات عدة مثل الترجمة، والإبداع، وفي نطاق اعتماد المقارَبات العلمية وتوظيف تقاليد البحث العلمي. وإن لا زلنا في أمسّ الحاجة إلى مزيد ترسيخ أنشطة هذه الورشات الحيوية في الثقافة، بتشجيع صنّاعها وتحفيز مبدعيها بمختلف الأشكال: المكافأة والمجازاة والحظوة المعنوية. صحيح اُتّخذت خطوات لرعاية تلك القطاعات، ولكن المطلوب هو المثابرة والإصرار على المواصلة ذلك النهج، لأنّ في المنجز المعرفي الواعي وفي العمل الإبداعي الهادف إنماء لقدراتنا الحقيقية.
في ظلّ تلك الأجواء، بدا الرهان على الثقافة، وعلى التشبّث بما يمكن أن تفتحه من آفاق، وتصنعه من آمال، خياراً استراتيجياً لنُخب واعية، مدركة لأدوارها ومهامها. آمنتْ تلك النُّخب بقدرة الفعل الثقافي على صنع اللُّحمة، في الداخل، في وقت دبّ فيه التفتّت، وبجدوى مدّ جسور التواصل، مع الخارج، في وقت ارتدّت فيه موجات الانكماش، كل هذا رغم عسر الواقع وكثرة العقبات وتدنّي الإمكانيات. كان الإيمان بفاعلية الثقافة في لَمْلَمة الكيانات المهشَّمة يقيناً يحفّز العاملين في قطاع الاقتصاد الرمزي. مع أنّ المؤشّرات الصادرة من واقع المجتمعات، كانت تبعث برسائل محبطة ويائسة: مزيد من الانحدار، كثافة منسوب العنف، وضيق دائرة الانغلاق، ولكن ذلك الجوّ القاتم الذي أَلمّ ببعض المجتمعات، دفع للتعلّق بإرادة الحياة والمضيّ قدماً في طريق البناء لأجل الإعمار عند غيرها. وظلّ تلمّسُ دروب الانفراج وتحسّس طرق الفوز، هو ما يلحّ في تأمّل المفكر، ومخيال الشاعر، ورهافة حسّ الفنّان.
ورغم أنّ العشرية الفائتة كانت عشرية اضطرابات عاتية، شهدتها جملة من المجتمعات العربية، بما جرّ إلى تعطّل مصالح حيوية، وإلى انهيارات فاجعة، وإلى اختلالات قِيميّة، وإلى انخرام في أنسجة المجتمعات، ظلّت الثقافة الجامعة والمسؤولة، في منجزات مبدعيها، من المشرق إلى المغرب ومن الخليج إلى المحيط، تتساءل وبحرقة: أي دور وأي قدرة لها في إيقاف هذا النزيف القاتل وهذا الخراب المستشري؟ وبعيداً عن أيّ مثبّطات وجدَ المثقفون المرابِطون أنفسهم أمام مسؤولية أخلاقية لتلمّس الحلول وصنع الأمل، عبر البحث والكتابة، وعبر سائر ضروب الإبداع. ذلك الأمل الواعد والقائم على الحلول الحقيقية، وليس المستثمر في زيادة رصيد الوهم لدى الناس، لأنّ هناك من يعي صنع الأمل في مجرّد إطلاق الوعود الزائفة، ولا يبالي إن أخْلف أو نكث.
فما المطروح على الثقافة المرابِطة ترسيخه والإصرار على إنجازه ونحن نستقبل عاماً جديداً؟ بعد أن بدت الخيارات العقلية والمقارَبات العلمية هي الطريق المثلى لإنتاج ثقافة متوازنة في الداخل ومتحاورة مع العالم، ثمة ضرورة ملحّة للانفتاح بقوّة على تبيئة النظر الفلسفي ومتابَعة مسارات الفكر العالمي فهماً وتحليلاً ونقداً، وكذلك ثمة حاجة ماسّة لاعتماد المناهج العلمية وتوظيفها في فهم الظواهر الدينية، وقد أمست مناهجنا الكلاسيكية لا تفي بالغرض للتواصل مع عالم مسكون بالتنوع القداسي. وإدراكاً أنّ المشاريع الثقافية الكبرى لا تُولد مكتمَلة، ولا تتأسّس بين عشية وضحاها، فإنّ التحوّل المنشود لمواكبة إنجازات العالم المعرفية والاستفادة منها، يقتضي منّا مواصلة ترسيخ خيارات المثاقَفة. بالانفتاح على المنجَز العالمي في شتى اللغات والثقافات، ولا سيما باعتماد الترجمة المعرفية والعلمية وعدم اقتصارنا على الترجمة لغرض الاستهلاك العاجل أو التوظيف الأيديولوجي. ومحاولة تكثيف الشراكات العلمية الحقيقية وعدم الاقتصار على مجرد شراء الكراسي العلمية، هنا وهناك، من دون استراتيجيات واضحة، وبدون تفعيل التعاون العلمي الحقيقي. ناهيك عن ضرورة السعي الجاد لترويج العربية في العالم، وقد باتت لغة مطلوبة يتهافت على اكتسابها الطلاب وعامة الناس، وما عادت لغة محصورة بقطاع المستشرقين كما كان سلَفاً.
فعالمنا اليوم قد بات قائماً على جانب كبير من اقتصاد المعرفة، وما يعنينا بالأساس في هذا المقال تلك المعرفة المتأتية من العلوم الإنسانية والاجتماعية، وما لم نحقق الحضور في ذلك الاقتصاد والإسهام في منجزاته، فإنّ ذلك يعني أننا لم نفهم أبجدية العالم الجديدة المتداوَلة بين شعوبه والرابطة بين ثقافاته.
يبقى السؤال المطروح ونحن على مشارف عام جديد: ما الذي علّمتنا إيّاه السنون العجاف التي عاشتها مجتمعاتنا، ونحن نقف في منعطف عشرية جديدة ونستقبل عاماً جديداً؟ نلاحظ ترسُّخَ جملة من القناعات: أنّ قدرة الثقافة الأصيلة هائلة في دحض ثقافة الخراب والموت واستبدالها بثقافة الحياة والإعمار لأجل بناء أوطان أجمل وأرحب، إنّ المجتمعات في الداخل، وبعد تراجع تقسيمات الأكثرية والأقلية، ونزعات الجهوية والطائفية، باتت في حاجة إلى عقد إيلاف جامع تُبني على أساسه دعائم المواطَنة، والشراكة المجتمعية، أنّ اختلاق التصادم مع العالم هو خيار يتناقض مع توجهاته الجامعة نحو بناء سلم شاملة، وتشييد نظام عالمي موحد، يواجه الظلم والفساد والجوائح والكوارث وانخرام البيئة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©