الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

قهوة لشخصين

قهوة لشخصين
7 يناير 2021 00:16

زاهرة محمد

«القهوة أخت الوقت تحتسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات......»
هكذا وصف محمود درويش تلك السمراء الحسناء في كتابه: «ذاكرة للنسيان». 
وعن بدايات اكتشافها، هناك رواية تقول إنه قد تم اكتشاف القهوة أول مرة في منطقة «كافا» جنوب إثيوبيا، من قبل راعٍ كان يرعى الماعز في ذلك المكان، عندما بدأ يلاحظ أن القطيع يزداد نشاطاً عندما يتناول حبات ثمار نبات معين، مما دفعه لتجربة مغلي تلك الثمار، كما أن هناك مصادر تاريخية أخرى تقول إن المتصوفة هم أول من استخدم الشراب المصنوع من الحبوب المصدرة من إثيوبيا إلى اليمن؛ لأنها تجعلهم مستيقظين طوال الليل لأداء الصلوات والأذكار والأوراد، وما إن حل القرن السادس عشر، حتى وصلت لبقية الشرق الأوسط وجنوب الهند وتركيا والبلدان الأخرى.
القهوة.. ذلك المشروب الساحر العجيب يمثل للبعض النديم الوفي والصاحب الصامت، الذي يشجع النفس على البوح ويهب الروح سكينةً، والعقلَ صفاءً تأملياً حين يمتزج عبقها الآسر بالمكان ليضفي على اللحظة والمكان رونقاً تحفظه الذاكرة، ولتترك خلفها خيط شوق واضحٍ يرغّب النفس بالعودة لها، كأنها أغنيةً عذبة تبقى عالقةً على شفاه كل من تذوقها.
القهوة تلك الأُنثى الخليلة، الحبيبة المفقودة التي تاهت بعيداً، تاركةً عطرها ونكهة طيبها كسحر أسود، لا يستطيع من يقع في فخه أن ينسلّ  أو يبرأ منه، القهوة أمٌّ حنون كما غناها مارسيل خليفة في وصف محمود درويش لها: 
 «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي...» لتصبح شريكة الخبز بدل الماء لما تستطيع حمله من ذاكرة مرتشفها معها، فلا مشروب في الكون يستطيع فعل ما تقوم به تلك السمراء التي تبرع في حمل الذكريات على أجنحة رائحتها الغامضة واستحضارها عند أول رشفة تسيل من ضوعها لشفاه مرتشفها.
القهوة وطنٌ يمتد كظلٍ أسود في الذاكرة، وينطفئ عند بزوغ الفجر في عجلة الحياة التي تدور بنا في المحطات البعيدة، لتظلنا بأغصانها حين نتوه ونشتاق ونغرق في طلاسم فنجان نبحث فيه أحياناً بعبثية عن أشخاص وعن أشياء فقدناها في رحلة الحياة، ونوهم أنفسنا أن الفنجان سينطق بالأسرار، وسيأخذنا من أيدينا وأرواحنا نحو ضالتنا المنشودة أيّاً كانت: حبيباً سيعود يوماً، أو حبيبةً في لوعة الشوق تغفو، أو حتى بيتاً جدرانه تنتظر احتضان ساكنيه، أو نخيلاً باسقاً لا ينحني إلا ليعانق العائدين شوقاً، ففي غياهبها طرقات نسلكها ونختبر فيها ذواتنا وصبرنا، وننثر في دروبها أُمنياتنا.
لهذه الملكة شهرتها ومكانتها وقيمتها، وتعد على اختلاف أشكالها وطرق تحضيرها المشروب الأشهر في العالم؛ إذ يتفنن الناس في طرق تحضيرها، متباهين برونق مميز ونقوش أخاذة لأوانيها التي تقدم بها، حتى أصبحت في العديد من الدول رمزاً وتجسيداً لكرم الضيافة العربية الأصيلة، إضافة لترسخها في العادات والتقاليد..
 ففي الإمارات، يستقبل المضيف ضيفهُ ويكرمه بالقهوة الممزوجة بالهال والزعفران وماء الورد، وفي دول أخرى يقوم أهل العريس بإخبار أهل العروس بأنهم سيقومون بزيارتهم (لشرب فنجان قهوة)، وبهذا فهي حاملة الطلب والوسيط، حيث تقدم لأكبر شخص سنّاً ومكانة والمتحدث باسم أهل العريس، فلا يشربها قبل أن ينطق الجملة المتداولة (قهوتكم مشروبة) بمعنى لنا طلب عندكم، فإذا وافق والد العروس يتم شرب القهوة وإذا رفض يخرجون من دون تناول رشفةٍ واحدة منها، وهذا يحدث في المشاكل الاجتماعية وجرائم القتل والدهس والحوادث والتسبب بالإصابات، حيث تظل القهوة مفتاح القبول والعفو أو الرفض والإصرار على طلب الثأر والقصاص، وبهذا فهي تمتلك قوة الكلمة من دون أن تنطق، بحضورها الجليل في أي مجلسٍ تتوسطه بما اكتسبته من عراقة ومكانة وأثر.
فليكن هذا الصباح برائحة القهوة وإحساسها وحضورها المميز، قهوة للمحبة، للصلح، للتسامح، للنسيان، لبناء جسور مودةً مع من نحب، برسالة تطول ولا تختصر تحمل في طياتها حديثاً له بداية وربما يمتد حتى ما لا نهاية، رسالة مفتاحها: أريد أن أدعوك يا صديقي لفنجان قهوة لشخصين بقلوب وذاكرة ناصعة البياض.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©