الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جون لوكاريه: أقول لكم سراً رائعاً

جون لوكاريه
7 يناير 2021 00:16

بقلم: جون لوكاريه
ترجمة: أحمد عثمان

عاهدت نفسي على عدم منح أي مقابلة صحافية مع أي صحافي من أي بلد بمناسبة صدور ذكرياتي «نفق الحمام»، ولدهشتي أرى أنه وعد لن يتحقق. التعليل الرسمي لهذا القرار جدير بالاحترام للغاية: كنت (ومازلت) في عذاب تحرير رواية جديدة طموح، ولا أريد أن أنتزع منها لكي أتكلم عن كتاب أحاول بكل طاقتي كتابته. 
التعليل الشخصي (جدير بالاحترام أيضاً) لهذا الصمت إذاً إنني أرفض نشر حياتي الخاصة. كل سرد عن حياتي أستطيع تحقيقه محدد بحدود لا مرئية، وبالتالي أخشى انجذابي إلى أرض عدوة. لا أتكلم هنا عن شؤون عاطفية أو هياكل عظمية مخبأة في الصوان العائلي، وإنما عن موضوعات حميمية وملحة، مثل مصدر الإبداع نفسه، إشكالية معتبرة وغامضة من الممكن أن تبتذل في التأملات المبسطة التي أقوم بها. في الرواية، أنا حر في استدعاء هويتي بإخفاء ما أريده، ولكن في الحياة الحقيقية، الأمر مزعج.
ما العلاقة بين أعمالي الروائية والعالم الخارجي الذي تسعى إلى تحليله؟ كل مرة يطرح فيها هذا السؤال، أرجع إلى عمري. بالمقارنة، العالم الخارجي كتاب ضخم من الألغاز الطفولية، قابل للتقدير فقط فيما يخص تجاوزه لكل ما يمكن تخيله (أنظر مثلاً النفحات الجنونية لدونالد ترامب، وكذا نفحات سياسي بلدي، مثل بوريس جونسون).
في الواقع، كان والدي خارجاً على القانون، وحكم عليه من قبل العدالة، وكان له تأثير على مهنتي ككاتب. كان أيضاً نصاباً مروجاً للأفكار المزيفة التي لم يدفعه ارتياده العديد من السجون (الواقعية والذهنية) إلى التخلي عن إيمانه بأن الرب اختاره. أعترف بأنني أعرف عدداً من الفنانين لا يشبهونه، باستثناء واحد أو أثنين. ولكن، في أيامي السيئة، أشعر أحياناً بضعف في تبني آرائه، رغماً عن أن موهبتي كلها تنتمي إليه كلياً (بمعنى أنني كنت نسخة غير ناضحة منه تلعب بحيوات على الورق بدلاً من تدمير حيوات حقيقية)، ونجحت من خلال الكلمات في انتزاعي من هذا السجن قبل فترة طويلة. 
إذا كنت مديناً لأبي (وفي الحقيقة أنا مدين له)، فهذا يرجع إلى الحالة الشعورية السيئة الذي تعذب شخصياتي عندما يتقدمون- كالجنود المسمومين بالغاز - بخطوات مترنحة على حبل يفصل بين إخلاصهم لقضية نبيلة واشمئزازهم من الوسائل التي يستخدمونها في سبيل تحقيق عملهم. لم أجابه أبي مطلقاً. كان «أكبر من الفشل» كما يقال اليوم عن البنوك. كذبت عليه بإبداع عالم خيالي موازٍ لعالمي، ووجدت ملجأ أختبئ فيه لكي أتخلص منه. حينما دخلت إلى عالم الجاسوسية الوهمي، شعرت بالعودة إلى الحظيرة، وهذا صحيح. بمعنى آخر، كل ما تعلمته، تعلمته على ركبتي والدي: عندما نقول كذبة ونضيف لها سحر المكاسب كما حبة كرز على الحلوى، نجد أن عدد الملائكة الذين سيهبطون من السماء مثير للدهشة. يتبقى أن الحقيقة الوهمية للعالم السري لا تتجاوز العالم الذي ابتكرته، ولذا ليس هناك أهمية لكي أجر ساقي إلى هذا العالم طويلاً. 
هل يستطيع الجاسوس الجيد على الطريقة القديمة أن يربح عيشه في هذا العالم الاستخباراتي المشبع بالإلكترونيات، حيث يتم التوصل إلى الكثير من المعلومات بنفس السعي الحثيث اللاواعي الشبيه بآلات صيد السمك الحديثة التي تجرف كل السمك؟ أقول سراً عجيباً تعرفونه من دون أدنى شك، ولكن جواسيس اليوم يتعلمونه بطريقتهم: في الماضي، الأمر مختلف. الآلة الكاتبة، مفكرة من نسخة واحدة أو ميكروفيلم في صندوق خطابات مهمل أضمن من الحاسوب المشفر الأكثر تأميناً في العالم. حينما كنت شاباً، الشفرة ذات الاستخدام الواحد متعذر اختراقها - على الأقل هذا ما كان يعتقده (خطأ) جواسيس العالم بأسره. في عصرنا الحالي، كل تقدم جديد ثوري في العالم السيبراني يتجاوز ما سبقه، والنظائر المضادة لهذا التقدم تتعدد بنفس الإيقاع. المعلومات لا تختزل في المعرفة. حتى عندما تصبح معرفة، هل من اللازم أن تكون ذات أولويات مناسبة، أن تكون في المكان المناسب وفي اللحظة المناسبة. كم من مرة قلنا إن المعلومات المناسبة للتدخل كانت متوفرة، بيد أنها لم تعالج ولم تقرأ من قبل الأشخاص المناسبين، ولهذا لم يتمكن أحد من التعامل معها بصورة مثلى؟ هل من اللازم الحصول على كثير من المعلومات؟ وهل، كلما تمكن جواسيسنا الإلكترونيون من الحصول على معلومات، قلت قدوتهم على هضمها؟
إذن، تخيلوا، في عالمنا المشبع بالمعلومات، الجاذبية السحرية لأسطورة العميل الذي يلصق أذنه بفتحة قفل هذا العالم. تخيلوا الاقتصاد في المعالجة المعلوماتية وتحليل المعطيات. تخيلوا الإحاطة بكل صور العجز الإنساني، كل صور الإهمال، كل الحماقات المتعايشة مع كل المنظمات الكبيرة المتخصصة في جمع المعلومات. وتخيلوا أنه يتم إحلال صوت وحيد ومفرد، واضح وموثوق فيه محل كل الصخب الإلكتروني. 
أهو حلم مستحيل؟ نعم، بالتأكيد.
إذا أحصينا، خلال مائة سنة، كل العملاء، أيا كان معسكرهم، الذين حققوا نتائج مأمولة، نجد أن الكثير منها لم يغير شيئاً يذكر. سواء لم يجدوا من يصدقهم، سواء لم تسمح معلوماتهم لهم بالتصرف، سواء كانت حقيقتها غير مقبولة (تقارير السي آي ايه للرئيس جونسون خلال السنوات الأخيرة من حرب فيتنام). لم يتوقع جواسيسنا الغربيون بناء جدار برلين ولا حتى انهياره. رأت السي آي ايه في  غورباتشوف (طعماً)، وقدرت على نحو مضحك التهديد السوفييتي الاستراتيجي. خلال أزمات الشرق الأوسط، الجواسيس المشترون بأسعار فلكية بمنتهى السرعة وبالجملة انكشف عدم فائدتهم وكذبهم. إذن، رغما عن هذا التحليل المهين، هل تتحرى استخباراتنا عن المسالك المعتمة في هذا العالم بحثاً عن جواسيس الغد؟ بالتأكيد، نعم. وإذا كان هذا لن يتحقق في العالم الحقيقي، فأنكم تستطيعون المراهنة بكل نقودكم على أنها ستقوم به في عالمي الخاص. 

لندن، 18أغسطس 2016
(*) أهدى جون لوكاريه هذا المقال لمجلة «الماغازين ليترير» التي نشرته في عددها المكرس عنه وعن مسيرته الأدبية.
(**) John le Carré، «Je vais vous dire un secret merveilleux»، Le Nouveau Magazine Littéraire، 2016/‏10 (N° 572)،

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©