الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفكر الضّاحك والأفكار المُضحكة

الفكر الضّاحك والأفكار المُضحكة
7 يناير 2021 00:17

أسماء جزائري

(1)
اصدم نفسك بالضّحك إن كنت تسير على فكرة مستقيمة، فنحن الشُّعوب الأكثر تجهّماً اليوم نملك تاريخاً طويلاً من التّفكير عبر الضَّحك.
يُمكننا الضّحك من كلّ شيء، وهذا لا يعني أنَّه بإمكاننا الضَّحك مع أيّ كان، صحيح أنّ هذا السُّلوك موقف ضدّ الاحتقار، ولكنّه يحمل بذرة الاحتقار ذاتها، وعدم المُشاركة في الإهانة لا يعني بالضّرورة عدم الضّحك عليها بفهم اختلاف أنواع الضّحك الذِّي في جوهره هو اختلاف بين الضَّاحكين على حسب الأديب العقاد، فهنالك الضّحك البرجوازيّ الذّي لا يُعلِّم الذّات أيّ شيء كما وضّحه برغسون في اختلاف الإنسان والحالة التّي يقعُ تصوّره فيها، أو الضّحك السّيادي الذّي يُعلِّمنا التَّحكم في الذّات ويجعلُنا نبتعد بخطوات عنّا لنكتشف عيُوبنا وحدود فكرنا، ثم نعترف بكلّ تواضع أنّ الحقيقة زئبقيّة، لكن هذا لا يجعلها وهميّة، حيث يصبحُ كلّ شيء جائزاً، كما تقدّمه نظرية فايربند الفوضويَّة للمعرفة. يمنحنا الضّحك ذلك الإدراك الذِّي يتناولُ حالة الجزم على أنّها ما تلبث مع الوقت أن تتلاشى، لأنّ الحقيقة في الضَّحك تكمُن في تجاوز الذاّت الصَّارمة الحازمة التّي تملكُ الإجابات القطعيّة، الأمر الذّي جعله منبوذاً عند رجال الدّين والأيديولوجيين والسياسيين وحتى عند بعض الفلاسفة، ويليق بهذا الفهم ما سخر به محمود درويش من الذات حين قال: كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء.

(2)
فهل يضحكُ الفكر أحياناً أم دائماً؟ وإن ضحك هل يكوُن معنا، أم علينا، أم معنا علينا؟ هل نفكِّر في الضّحك، أم نفكّر عبر الضَّحك؟
إن كان الإنسان يُجيدُ التَّعبير عن الوجُود بالأفكار العالية والصَّامتة، فإنّه يفعل ذلك أيضاً بالضّحك، هذا السُّلوك لا يعبّر عن مفهوم السَّعادة السّاذج بقدر ما يعبّر عن تحرّر الإنسان من مظاهر الوُجود وعودته لجوهر الوُجود، فكلّ فكرة في الحياة قابلة للضَّحك حتى فكرة الموت ذاتها التّي تُعتبر الأكثر حزناً، الإنسان اللاّضحوك يعادل اللاحيّ، ومن ثَمَّ فالفكر اللاّضاحك ليس حيّاً في معظمِه، والجِدّ الظاهر لا جوهريّ يستغني فيه الإنسان عن الكائن الحيّ مقابل الكائن المُلتزم. في كتابه «ما وراء الخير والشّر» يقول نيتشه: «سأُغامر بتصنيفِ الفلاسفة حسب ضحكِهم»، معتبراً إيَّاه أشدّ فهماً للآخر من أفكاره، أمّا في عمله «هكذا تكلم زارادشت» فيختصرُ رأيه المُطلق حينما يقذف «زارا» تاج الضَّاحكين معلناً قداسة الضّحك في وجه الراقين «فلتتعلَّموا أن تضحكُوا». وخصّص ديكارت ثلاثة أقسام للضحك ولعلاقته بالمهج، ودافع سبينوزا عن هذه الفكرة في كتابه الرّابع حول «الإيطيقا»، وكان هوبز وبودلير ومعظم مفكري النّهضة يفرّقون بين الابتسامة والضّحك، فالابتسامة هي من الحبّ، بينما الضَّحك من الاحتقار، ولكن سرعان ما ظهرت في بريطانيا ثقافة الأنوار التّي تُناقض هذه المُعتقدات، مُعتبرين أنَّها لم تتخلَّص بعد من الفكر الموُروث، ففي القرن الثاّلث عشر وقع استدعاء الفُقهاء إلى «السوربون» وذلك للإجابة على السّؤال التّالي: «هل ضحك المسيح؟».
لكن ماذا لو لم يُثبت يومها أنّ المسيح ضحكَ، هل كان سيقُود الفكر إلى الامتناع عن جوهر «الضّحك»؟ هل كنّا سنقرأ اليوم لبرناردشو مثلاً، وهل كانت ستختفِي قصص جُحا ورسومات الكاريكاتور؟ ثمّ ما الذّي يُخيف الدين من الضَّحك لدرجة تصنيفه في خانة اللامستحب، رغم أنّ للكاتب الصِّيني «لن يوتانج» رأياً طريفاً يقول فيه: «إذا أرسلت خمسة من أفضل ممارسي الفُكاهة في العالم إلى مؤتمر دوليّ، ومنحتهم السُّلطة المُطلقة التّي يملكها الحُّكام المُستبدُّون فإنّهم سينقذُون العالم» هل يُعقل أنّهم يريدُون إغراق العالم؟

(3)
يتبادرُ إلى أذهاننا دائماً أنّ الفكر هو نوعٌ من الجديّة، وأنّ الالتزام هو ذلكَ الوجه المُتجهمِّ، دون أن يُعرّف لنا أحد كيف هو شكل الجديّة الحقيقي، ولماذا لا يكُون لهذه الجديّة وجه مضحك؟ لماذا يحمَّل الضَّحك كلّ فكر الاستهتار الذّي يجعلنا نعتقد أنّ الذِّين يمتلكُون روح السُّخرية هم غير مُلتزمين بالضَّرورة، ويتّم التَّمييز حتى بين المسؤول واللامسؤول بعدد الضَّحكات، كأنّ الأمر مساوٍ للرّذيلة، هل الجديّة نمط حياة مُستقيم، أم أنّها فكرة نمطيّة عن الاستقامة؟ ما هي الاستقامة، إن لم تغيّر مستويات التَّفكير، بنقل المألوف إلى لا مألوف سيُؤلف لاحقاً، لتكشف عن جوهر الإنسان الجائع لفكّ القيُود، فإذا بدأ الشّعب بصناعة النُّكتة، فاعلم أنّه بدأ يشعر بالجُوع، كما وضّح كيركيغارد، فأفلاطون الذّي يعتبر الضّحك أوجاع النّفس يوصينا بالضحك فقط على الكائن المُتوهّم «الجاهل معتبراً نفسه عالماً»، و«الفقير معتبراً نفسه غنياً»، و«القبيح معتبراً نفسه جميلاً»، و«الأبله معتبراً نفسه حكيماً»!
أمّا أرستوفان مؤسِّس فنّ الكوميديا، فكان يُصرّ على تبنّي الضّحك على كلّ شيء والسّخرية من كلّ شيء، حتّى أنّه تهكّم على صديقه سقراط الذّي يكنّ له كلّ التَّقدير حين جمعهما أفلاطون على مأدبة. ولكن أرسطو يرى في التّراجيديا تماهياً للشّخوص في التَّقليد باحترافيّة، الأمر الذّي لا تقدّمه الشُّخوص في التَّمثيل الهزليّ الذّي ينطلقُ من التقليد الباعث على السّخريّة والتّحقير(المحاكاة)، بينما أرستوفان سخر من سُقراط لا ليحتقره، بل لأنّه كان يمثّل سلطة فكريّة وأخلاقية وبالتالي مدعاة للضَّحك والسّخرية، وحتى سقراط نفسه ضحكَ من طريقة ضحك أرستوفان منه هو ذاته.
فلماذا كانت أسطورة الضّحك مميتةً للقلُوب؟

(4)
ربما لأنّ كثرة الأساطير تميت الضّحك.    
في رواية «اسم الوردة» تناول الكاتب إمبرتو إيكو فكرة الخوف من الضّحك وسُلطته القادِرة على تحطيم الأنا المُتعالية، سواء في الذّات أو في المفاهيم، عبر الصّدمة التّي تُحرر الثوابت وفي المقابل تخلقُ أفكاراً مضحكة، إذ يصرّ القس جورج في العمل الرِّوائي على أنّ لا يسقط القسم الثّاني من كتاب أرسطو الذّي يتطرَّق للشَّاعريّة بين أيدي أيّ كان، فاهتم المؤلِّفون الذِّين جاؤوا بعد أرسطو بالجُزء الأوّل الذّي تناول التّراجيديا، بينما تناول القسم الآخر الكُوميديا، معتبراً القسّ جورج أن للضِّحك غاية شيطانيّة، فراح الإنسان يخترع فكرهُ المُضحك بدل التفكير عبر الضّحك، انطلاقاً من الخوف على الجدّية التقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©