الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

خميس السماحي.. شاعر الذكريات

خميس السماحي.. شاعر الذكريات
9 يناير 2021 00:25

إبراهيم الملا

«قال عن تبع الهوى ثنّى       ما يراقي في الهوى شيبه
قلت هذا الشيب بالنّا         والبليّه هذي مصيبه
يا نديبي سير وتعنّي          بالأخبار وجيب ترتيبه»

يفصح الشاعر القدير خميس بن حمد السماحي في القصيدة أعلاه عن انشغالات ذاتية ترصدها العين ويفيض بها الخاطر فيما يخص تحولات العمر، وتعاقب السنين، وأثر هذه التحولات على الحماس المتقّد للمحب أثناء فورة شبابه، وانحسار هذا الحماس وخفوته عند الوصول لمرحلة «الشيب» وكبر السن، ولكن هذا التحوّل البديهي بالنسبة للآخرين، لا يعني شمول الحكم على الجميع، خصوصاً الشعراء، الذين يمكن استثناؤهم هنا من التوصيف الشمولي، فالشاعر بقلبه النابض دوماً وحسّه المتلهف أبداً، لا يمكن أن يخضع للشرط الجماعي، وللصيرورة الغالبة، إنه يخلق فردانيته وسط المتشابه، ويؤكد حضوره الخالص وسط الأنماط المتداخلة، إنه المتميّز والمتوهّج من ذاته وإلى ذاته مثل الجوهر النفيس، والمعدن الغالي.
لذلك يقول السماحي: إنه لن يحيد في طريقه عن درب الهوى، وإنه رغم مظهره الخارجي الذي شبّهه بالبلوى، فإن قلبه ما زال مخضّراً ويانعاً، ولا يعكس أبداً زاوية النظر تجاهه، وهو في سبيل تأكيد مسعاه وهمته وشغفه يبعث بمندوبه كي يتقصّى أخبار المحبوب ويأتيه بالنبأ اليقين عن أحواله ومجرياته، صائغاً ملامح هذا الشغف والترقب في أبياته التالية التي يقول فيها:

«خصّ راعي الكفّ لمحنّا      وين يمشي في مساحيبه
من جداهم قلبي تمنّى        لين سموّني بعد شيبه»

في هذا المقطع التوصيفي الجميل يستدلّ السماحي بالتمنّي ويستمسك بالأمل ويستحضر التفاؤل، وبالتالي فإن غياب المحبوب بالنسبة للآخرين، هو حضور متألق في الذاكرة بالنسبة له، إنه يستعيد التفاصيل الظاهرة لمحبوبه بدقّة، وكأنه يراه رأي العين، أماّ المندوب فهو مجرّد وسيط لطمأنة الطرف الآخر، وتخفيف روعه، وتوصيل الرسالة المشفّرة إليه، بأن البعد لا يعني الانقطاع، وأن النأي دونه الكثير من الشوق والوله والامتحان الذاتي تجاه الصبر والمناجاة والرجاء.
«من جداهم قلبي تمنّى /‏ لين سمّوني بعد شيبه»، وفي هذا الوصف البليغ يشير السماحي إلى أن قسوة الانتظار وطول أمد الغياب، كان لهما دور في وصوله لهذا الطور العمري الذي جعل الناس يطلقون عليه وصف «الشيبة»، والذي يراه وصفاً يستوجب الثناء لا التقريع، فالشيب هنا سبب وليس نتيجة، وهو ثمرة تضحية وترجمة واضحة لمعاناة العاشق في انتظاراته المديدة، كما أنها وقود داخلي لتفعيل طاقة الخيال الشعري ولتدفق القول البديع، رغم جروح النفس وتكالب المشاعر الجياشة ووطأة الذكرى ووحشة الحرمان.

الطبيعة الجبلية
انتقل السماحي بعد فترة شبابه التي قضاها في وادي اصفني للعيش في قرية «كدرا» ذات الطبيعة الجبلية أيضاً، ولأنه كان وحيد والديه ولم ترزق أسرته الصغيرة بإخوة أو أخوات يحيطون به ويسلّونه، فقد ظلّ السماحي أسيراً لعزلة الحال والمآل، وخصوصاً بعد رحيل والده وهو ما زال في السادسة من عمره، ما أسّس في دواخله مساحة مكثّفة من الوحدة والحزن، وهي المساحة التي على كل حال لم تفتّ من عضده، ولم تحرمه الاتصال بالعالم شعرياً ووجدانياً، بل كان لهذه الظروف الذاتية الصعبة دور كبير في تطوير موهبته وتعويض خسارات الطفولة باكتشاف ما يوجد خلف الجبال، وما تضمه حياة البحر والصحراء من مكونات مشهدية ومعرفية مختلفة وشديدة التنوع، وهو ما لاحظناه في قصائد المساجلات التي أبدع السماحي في توليفها، والتي حاور من خلالها شعراء كباراً عاصرهم واحتك بهم أمثال راشد الخضر، وعلي بن رحمة الشامسي، وابن سوقات، والجمري، وحمد بوشهاب، ومحمد الكوس، وابن صنقور، وغيرهم من الشعراء الذين أتوا من بيئات شعرية وجغرافية مختلفة، والذين تعرّف على معظمهم أثناء مشاركاته اللاحقة في برامج الشعر الشعبي الإذاعية والتلفزيونية بدبي وأبوظبي منذ انطلاقتها في السبعينيات من القرن الماضي، كان السماحي وما زال متمتعاً بتلك الحيوية الشعرية التي تبثّ عافيتها وعبقها المحلّي في كل لقاء تلفزيوني تجريه معه منصات العرض المختلفة، حيث نراه متألقاً في إلقائه لفنون الشعر الأدائية والتعبيرية مثل «الرزفة» و«العازي» و«الطارق»، مستعيداً في حديثه العذب والعفوي صوراً من الماضي البعيد، التي يعيد السماحي بعثها من الذاكرة الجمعية، وكأنه حارسها الأمين، الراصد لها، والمحافظ عليها كي لا يجرفها النسيان والتلاشي والاندثار.. يقول السماحي في إحدى قصائده المتوائمة مع هذا السياق المشبع بالحنين:

«دار المثـل فـي بعـض لـيـام
واذكـرت ماضينـا ف لعصـور
لـوّل سكنـا عـرش و اخـيـام
وابيـوت مبنايـه مـن الــزور
وينـه زمانـك لـوّلـي شــام
قفّـا و خـلاّ النـاس فـي طـور»

يسترجع السماحي في هذه القصيدة الصور الآفلة والمتوارية عن الإطار المشهدي الراهن، مستعيناً بذاكرته الشخصية لتوقير واستجلاء أشكال وأنماط المعيشة في الماضي قبل حدوث التطورات الكبرى في إيقاع الحياة الخارجية وطبيعتها الجديدة، موجّهاً بوصلته ناحية التفاصيل القديمة للمنازل البسيطة المكونة من العرشان والخيام وبيوت الطين والمنازل المصنوعة من حجارة الجبل، والتي كان دونها الكثير من التعب والعناء والجهد «الزور»، ملقياً الضوء على التحولات اللاحقة في الحياة الاجتماعية، والطور المختلف الذي جعل الناس منشغلين وغافلين عن ما واجهه الآباء والأجداد من شظف العيش وقلة الموارد وضعف الحيلة، والتي أبانت رغم قسوتها عن قوة وعزيمة وأنفة هؤلاء الأجداد، وهي عناصر يجب أن تكون متوارثة وحاضرة في وعي الأجيال الجديدة والقادمة.

  • غلاف ديوان خميس بن حمد السماحي
    غلاف ديوان خميس بن حمد السماحي

فنون الأداء
يروي الشاعر خميس السماحي، في أحد البرامج الحوارية معه، بأنه نظم الشعر وهو في الرابعة عشرة من عمره، وكان لمشاركته في الأعراس والمناسبات الاجتماعية دور في تعلقه بفنون الأداء والقول الشعري، وأن بدايته الحقيقية مع الشعر كانت أثناء مشاركته الأولى في برنامج مجالس الشعراء بتلفزيون دبي عام 1974م، ومن هناك كانت انطلاقته في عالم القصيد، حيث عرف الناس طبيعة ونوعية شعره، واطلعوا على أسلوبه المتميز في الإلقاء، وكذلك التعرّف على مفرداته ذات الخصوصية البيئية التي ترعرع بها، حيث اتصفت هذه المفردات بالبلاغة والبيان والدقّة، رغم أن السماحي لم يحظ بفرصة التعليم في «الكتاتيب»، ما يشير إلى أن السماحي وظّف تجربته الحياتية الممتدة وموهبته الفطرية الأصيلة لتعويض هذا النقص في الجانب التعليمي، فكانت الحياة بتقلباتها وتحولاتها ودروسها هي المعلّم الأكبر له، وهي التي فاضت عليه بالرؤى والمعارف ومرافقة الشخوص المؤثرين، ما جعله في النهاية قادراً على قراءة الحياة بشموليتها، والاستفادة من نقلاتها الزمنية بين الماضي والحاضر، والاتعاظ من السلوكيات البشرية الخاطئة، وما يترتب عليها من محن ومآسٍ، لتجنّبها وتلافيها.

سيرة حياتية
يرد في السيرة الحياتية للشاعر خميس السماحي أنه اكتسب معرفة واسعة من تجاربه الشعرية وتطرق إلى كل أبوابها، بدءاً بشعر المديح وانتهاء بشعر الغزل، أما شعر الردود ومساجلاته الشعرية، فهذا ما يتميز به، فهو حاضر لكل شاعر ومستعد للرد على من يشاكيه، بل إنه كثيراً من الأوقات ما يجاري الشعراء، فيقول على منوالهم، حتى أنه أصبح يقول في كل يوم قصيدة أو أكثر، أما أكثر مساجلاته الشعرية فهي مع صديقه وصاحبه في الشعر وهو الشاعر «علي بن بخيت» ولا عجب في ذلك، فكلاهما في نفس العمر وكلاهما شاعران نبطيان جيدان، وقد أثر ذلك عليهما، وجادت قريحتهما بأشعار حافلة بالتحدي والمنافسة، حتى أطلق عليهما «الشاعرين النديمين». أما شعر النصح، فقد أجاد فيه وبرع، ثم إن شعر السماحي يتميز أيضاً بالمداعبة، فدائماً ما يدخل بيتاً على قصيدته ليظهر البسمة على وجوه من يسمعونه فيحبونه، ويسكن الشاعر حالياً قرية «كدرا» الجبلية القريبة من منطقتي «السيجي» و«الذيد»، وقد قال الشاعر أشعاراً كثيرة في المغفور له بإذن الله الشيخ زايد يمدحه فيها، وكذلك في كل حكام الإمارات، وقدم الكثير من القصائد الشعبية في الأعياد الوطنية، وخاصة عيد الاتحاد الذي منحه كمّاً ملحوظاً من أشعاره الموحية والعذبة.

  • وادي «اصفني» حيث ولد الشاعر خميس بن حمد السماحي
    وادي «اصفني» حيث ولد الشاعر خميس بن حمد السماحي

وادي «اصفني»
ولد الشاعر خميس بن حمد السماحي القايدي في وادي «اصفني» برأس الخيمة، في العام 1940م، وهو من القامات الشعرية الإماراتية التي أبدعت في صنوف وأنواع الشعر النبطي بمختلف أغراضه ومواضيعه، وفيما يشبه التقاطع بين المواهب، أو التعاضد الروحي، فقد كان للسماحي إثر صحبته الطويلة مع الشاعر الكبير الراحل سالم الدهماني حضور مختلف ومضيء في الأوساط الشعرية، باعتبار أن الشاعرين امتلكا مساحة تعبيرية خاصة عززتها تجاربهما الحياتية المتشعّبة، وعمق اتصالهما بالبيئة الجبلية التي ترعرعا في وسطها، واستقيا منها جمالية المفردة، وقوة السبك، واتساع الإدراك، وتنوع الإيقاع.

فرصة ذهبية 
منحت الطبيعة المحيطة بشاعرنا خميس بن حمد السماحي القايدي في طفولته فرصة ذهبية لجني ثمار العزلة الإيجابية، حيث تجلّت للسماحي، وسط الجبال المهيبة والمسالك الوعرة، خصوصية الانتماء والصلابة الذاتية والتكيّف مع ظروف المكان، وتخطّي صعوبات الحياة - الظاهر منها والباطن - مروّضاً بذلك ملكاته التعبيرية الجامحة في قالب شعري ينطوي على الكثير من الحكمة والتأمل والسفر الذهني في شعاب البصيرة وأودية الفكر ومكامن المعرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©