الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الرّجل الأخير

الرّجل الأخير
14 يناير 2021 00:36

أحمد حميدة

في «هكذا تحدّث زرادشت»، يتكلّم نيتشه عن بطل القصّة.. زرادشت، الذي كان في سنّ الثّلاثين قد عزل نفسه في الجبال من أجل إدراك سبل التّنوير، عساه يجد في العزلة سبيلاً للترقّي، ويتمكّن من حلّ مشكلة الإنسان والوجود. بعد عشر سنوات، وبعد أن أرهقه التّفكير، ومزوّداً بفيض الحكمة التي اكتسبها، يخرج من كهفه لينظر إلى الشّمس وهي تشرق، ليقول لها: «أيّتها الشّمس، إذا لم يكن هناك من يأخذ الدّفء من نورك، فأيّ مبرّر لسعادتك؟ عشر سنوات أنرت فيها كهفي، ولولاي ونِسري وحيّتي، لكان أصابك الملل من هذه الرّحلة، وها قد أصابني الملل من حكمتي، ومثل نحلة جمعت الكثير من العسل، أحتاج لمن يمدّ يده ويأخذ منّي..». اعتقد زرادشت أنّ الوقت قد حان لينزل من كهفه، وليتشارك مع إخوته من البشر حكمته المكتسبة. رفع رأسه مخاطباً الشّمس مرّة أخرى: «عليّ أن أهبط إلى أسفل، مثلما تفعلين أنت حين تغربين وراء البحار، عليّ أن أنير للبشر ظلمتهم. إنّ هذه الكأس تريد أن تفرغ، وزرادشت يريد أن يغدو إنساناً من جديد». ومع نزوله من الجبل، يلتقي زرادشت برجل كبير في السنّ، فيسأله عمّا يريده من البشريّة، ويجيبه زرادشت أنّه يحبّ البشر، وأنّه يحمل لهم أجمل هديّة، ألا وهي الحكمة، فيحذّره الرّجل بأنّ البشر لن يأخذوا بكلامه، وبأنّهم سيردّون عليه بالاستهزاء ويبدون نحوه مشاعر الكراهيّة. لكنّ زرادشت لا يلقي له بالاً ويقرّر إكمال طريقه. يصل زرادشت إلى مدينة قريبة، حيث رأى أنّ أهلها اجتمعوا في السّاحة العامّة، ينتظرون بهلوانيّاً يستعدّ للسّير على حبل مشدود في الهواء. حاول زرادشت من خلال ذلك التجمّع انتهاز الفرصة ليشدّ انتباههم، فشرع يخطب فيهم: «أريد أن أريكم الإنسان الخارق الذي علينا تجاوزه، فما الّذي فعلتم لتجاوزه؟ كلّ الكائنات حتّى الآن تبدع لشيء ما يتجاوز كيانها، فهل تريدون أن تكونوا حركة الجزر في هذا المدّ العظيم؟ هل تفضّلون العودة إلى مرحلة الحيوان بدل التّوق إلى مرحلة الإنسان الخارق؟».

التطوّر الإبداعيّ
نحن نعلم جيّداً جواز نظريّة فكرة التطوّر الدّاروينيّة في القرن التّاسع عشر، هذه النّظريّة التي تعتمد على مبدأ الانتقاء الطبيعي، لكنّ نيتشه رفض هذا المبدأ، ووضع نظريّته الخاصّة في «التطوّر الإبداعيّ»، فهو يدّعي أنّ التطوّر لا يحصل بسبب طفرات عشوائيّة في الجينات، بل يحصل نتيجة القوّة الغائيّة، التي تنقل الرّوح من مرحلة دنيا إلى مرحلة مستنيرة. وتتمثّل هذه القوّة بالطّموح وهو الطّموح الذي لو قبله الإنسان بدل رفضه، لاستطاع تجاوز نفسه ولأمكنه التطوّر. 
حاول زرادشت إقناع الجمهور أمامه بتجاهل التّعاليم القديمة ومحاولة إيجاد معنى جديد للأرض وللحياة. فقوّة الجسد تأتي حسب رأيه من الغرائز الطّبيعيّة، التي تتسامى بالرّوح لكي يتجاوز الإنسان نفسه. هذا المعنى الجديد هو بالطّبع الإنسان الخارق. وبعد أن أكمل زرادشت كلامه، اعتقد الجهور أنّه البهلوانيّ الذين كانوا في انتظاره، فضحكوا، وقال بعضهم: «والآن سنُعلم البهلوانيّ أنّ الوقت قد حان كي نرى حركاته». 
لكنّ البهلوانيّ الحقيقيّ سمع هذا الكلام، فاعتقد أنّ الوقت قد حان ليعرض فعاليّته. وفيما بدأ الجمهور ينظر إلى الأعلى، حاول زرادشت إكمال كلامه مستعيناً بالبهلوانيّ وحبله لعرض فكرته المجازيّة: ما الإنسان سوى حبل بين الرّجل الخارق والحيوان، حبل مشدود فوق هوّة العدم. والسّير على مثل هذا الحبل هو من الرياضات الخطيرة، لذلك، كان نيتشه يرى أنّه إذا كان على الإنسان أن يرتقي، فعليه أن يعيش حياة الخطر، ألا يبقى في حالة ركود، وأن يسعى بالتّالي إلى التّسامي. وأكمل زرادشت: «إنّ الذين يعيشون حياة الخطر، فهم بحثاً عن سبل التّسامي هم الذين يمثّلون الرّجل الخارق. إنّي لأحبّ أولئك الذين يحبّون قطرات المطر الثّقيلة المعلّقة على رؤوس البشر والتي تنثال من الغيوم السّوداء، فهم النّذير ويتنبؤون بقدوم البرق. أنظروا إليّ! أنا أوّل هذه القطرات وأقول لكم إنّ البرق لقادم، وهذا البرق هو الإنسان الخارق».
بعد أن أكمل زرادشت كلامه، هزّ الجميع ضحك هستيريّ، وتفاجأ زرادشت من ردّة فعلهم تلك، لذلك قرّر أن يغيّر من أسلوبه. أراد أن يبيّن لهم أنّ القيم القديمة آخذة في الذّبول وأنّ الحضارة البشريّة تتوجّه إلى الرّجل الأخير، الشّخصيّة الأكثر مقتاً من كلّ الشّخصيّات، وهو نقيض الرّجل الخارق. أراد أن يبيّن لهم أنّ الوقت قد حان كيما يعدّل الإنسان أهدافه، وأن يبادر بزرع بذور آماله المتعالية، فالأرض لا تزال خصبة، ولكنّها لن تبقى دوماً كذلك. 
«أقولها لكم: الإنسان بحاجة إلى الفوضى في داخله كيما يلد نجمة متوهّجة. أقولها لكم: ما زالت هناك فوضى بداخلكم. ويا حسرتاه! لقد أزف وقت التّسامي، ولم يتمكّن الإنسان بعد من أن يلد نجوماً. ها أنا ذا أريكم حقيقة الرّجل الأخير!». الرّجل الأخير هو ذلك الذي لا يهتمّ بالإبداع.. بل يلوذ دوماً بالاستهلاك، وبإرضائه لغرائزه، يعتقد أنّه أدرك السّعادة القصوى، على أنّ هذه الحالة لا تنفكّ تسوء مع التقدّم التّكنولوجيّ والتوجّه المستمرّ نحو المغريات الماديّة، غير أنّه بهذه المتع الحسيّة، يحاول في الحقيقة أن يغطّي على إحساسه بالفراغ والتّعاسة، وبدون هدف حقيقيّ في حياته، لن يجد الرّجل الأخير مبرّراً للمعاناة التي يحتاج إليها الإنسان لكي يتجاوز نفسه ويرتقي بروحه. هو لا يجرؤ على الخروج من نطاق متعته، ولكنّه لا يعلم أنّ هذه المتعة هي سبب تعاسته. ولهذا السّبب.. ينمّي فيه ذلك، الحقد على الذين نجحوا في تطوير ذواتهم، كما يجعله يحارب التميّز بدعوى المساواة. فيما يريد الرّجل الخارق لمجتمعه أن يكون متسامياً تماماً، ليس بدافع من الحاكم أو من نظام مضطهد ما، بل من داخل المجتمع ذاته، حيث الحسد والغيرة والسّخرية هي التي تحدّ من ارتقاء الآخرين. 
«الكلّ.. قطيع، الكلّ  يريدون نفس الشّيء، والكلّ هم الشّيء نفسه. ومن يعتقد خلاف هذا، ينبغي أن يساق إلى مستشفى المجانين». بعد أن أكمل زرادشت كلامه، أجابه البعض بسخرية: نريد أن نكون ذلك الرّجل الأخير، ولتحتفظ بالرّجل الخارق لنفسك. «وها هم ينظرون إليّ الآن ويضحكون، وفي ضحكاتهم علامات كراهيّة وجمود». أدرك زرادشت حينها أنّ الغالبيّة من البشر لا يستطيعون استيعاب كلماته، بل ليس لهم الاستعداد لذلك. وقد جعله إعراضهم ذاك يغيّر من خطّته، فبدل أن ينشر رسالته إلى الجميع، قرّر أن يخصّصها للقلّة المتميّزين الذين هم أعلى من القطيع.
غادر زرادشت المدينة يغمره أمل من نوع جديد، مرحّباً في طريقة بكلّ من كان يريد أن يتعلّم منه شيئاً، ولكن.. وفي أثناء سيره في البريّة، رأى إشارة غريبة في السّماء. ففي وقت الظّهيرة، رأى نسراً وأفعى ملتفّة حول عنقه، ليس كفريسة.. بل كصديق. وتلك حالة غريبة، فلطالما كان النّسر يرمز في التّاريخ إلى الارتقاء بالعقل والرّوح، وهو تبعاً لذلك عكس الأفعى، التي تمثّل الشرّ والغرائز الدّونيّة، فكانت الإشارة التّالية لزرادشت: بقدر ما نبحث عمّا يقوّي عقولنا، يجب أيضاً أن نتعرّف على النّفس ونعلم عيوبها. وكما يقول زرادشت لاحقاً في القصّة، «حال الإنسان كحال الأشجار، كلما ارتفعت في السّماء وحظيت بمزيد من الضوء، غدت جذورها أقوى، وازدادت قدرتها على اختراق الظّلام». بالطّبع ندرك جيّداً أنّ ما جاء به نيتشه لا يخالف فحسب الأعراف القديمة، بل يخالف كذلك المفكّرين والفلاسفة الآخرين، وهنا تكمن أحد أوجه فرادة الفكر النّيتشوي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©