الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مايكل ساندل.. ولغز الاستحقاق

مايكل ساندل.. ولغز الاستحقاق
27 مايو 2021 03:38

محمد نور الدين أفاية

يحثُّ النظام التعليمي العصري الناشئة على أن تَتَعلم كيف تتعلم، وكيف تُفكر، وكيف تُبادر، وبالتالي كيف تنجح، وهذه من الأهداف الكبرى التي تتطلع البلدان إلى تحقيقها، لكن المنظومة الاقتصادية ومنطق التراتبية الاجتماعية الذي تنتجه الاختيارات الليبرالية يختزنان آليات لا تكف عن إنتاج وإعادة إنتاج هذه التراتبية، باعتبار أن الفوارق المتنوعة التي تنجم عن هذه الاختيارات لا يمكنها، بأي حال من الأحوال، أن تخلق فرصاً متكافئة في الدخْل أو يستفيد الجميع من ثمرات النمو، أو من مقدرات الحياة بشكل متساوٍ.
لكن ما هو المجتمع العادل؟ ما هو الخير العام أو الخير المشترك؟ كيف يمكن تثمين مساهمات المواطنين في الحركية الاقتصادية؟ وإلى أي حد يمكن توفير شروط الكرامة في الشغل؟
حضرت هذه الأسئلة في كتابات الفيلسوف الأميركي مايكل ساندل طيلة أربعين سنة، والذي يمثل تيار ما يسمى بـ«أخلاقيات الفضيلة»، حيث دفعته بحوثه إلى توجيه انتقادات دائمة لليبرالية لأنها، في نظره، تدافع عن الحرية المطلقة للسوق قبل أي اعتبار آخر، والحال أن نِقمة الطبقات المتوسطة والفئات الكادحة على الديمقراطيات وعلى الليبرالية بالتَبَع، مرده إلى ما يسميه ساندل بـ«إيديولوجيا الاستحقاق». فبقدر ما تتفاقم الفوارق والتفاوتات، يتولد اعتقاد لدى الرابحين من ثمرات العولمة النيوليبرالية بأن النجاح هو ثمرة الشغل وحده، وما يَجْنُونه يُعبر عن جدارتهم واستحقاقهم، وبالمقابل فإن الفئات المتضررة من العولمة، التي تعيش وضعيات هشاشة، تستحق قَدَرها في كل الأحوال. فالفقير، من المنظور النيوليبرالي، يستحق فقره، ليس لأن راتبه أو مدخوله متواضع أو منعدم فقط، بل لأن ما يعيشه هو نتاج أخطائه هو. وبسبب هذه الوضعية المتميزة بتفاوتات صارخة، تمخض إحساس بالإهانة وبالعجز لدى الفئات الموجودة في أدنى السُلَّم الاجتماعي.
تُرَوِّج الدعاية العامة في المجتمعات الليبرالية أن النزعة الاستحقاقية ذات مضامين تحررية، حيث تقول للناس ما معناه: أن الجميع يمتلك حظوظًا، مهْما كان أصل ولادة المرء، وانتمائه الاجتماعي، ويجوز لكل فرد في المجتمع أن يتسلق السُلَّم الاجتماعي بفضل مواهبه وعمله. هكذا يمكن للطالب بذل أقصى جهد لكي يلج أفضل الجامعات، ويحصل على أعلى الشهادات التي تُخول له الوصول إلى الموقع الأنسب داخل التراتبية الاجتماعية. وغدا التعليم العالي الحَكَم الفصل بخصوص الفرص المتاحة في مجتمع السوق المفتوحة والحرة. وإن كان مايكل ساندل لا يقلل من شأن العمل والجهد في الحياة، فإنه يرى أن إيديولوجيا الاستحقاق لا تقدم علاجاً للتفاوتات بقدر ما تقدم تبريرا لها، مُدعية أن الشغل يخلق الحركية الاجتماعية، ولكل إنسان الموقع الذي يستحقه. غير أننا نعاين، كما يقول ساندل، أن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن هذه القاعدة غير دقيقة ولا يمكن البناء عليها لتفسير النجاح أو الفشل والانكسار، إذ إن واقع الأمر يُبين أن الطلبة الذين يلجون أفضل الجامعات والمدارس ينتمون، في الغالب الأعم، لعائلات ميسورة.

  • مايكل ساندل
    مايكل ساندل

يقوم مايكل ساندل في كتاباته باستجلاء خلفيات إيديولوجيا الاستحقاق التي تبرر للمستفيدين من العولمة احتلالهم للمواقع التي يحتلونها، وتسمح لهم بالحكم على الخاسرين منها بالمسؤولية عن فشلهم الاجتماعي. ولمواجهة منظومة التبرير هاته يرى ساندل أن علاج هذه التفاوتات تكمن في نهج سياسة للخير المشترك، مُرتكِز على الكرامة في الشغل. وهو بذلك يسعى إلى وضع مسألة الخير العام أو الصالح العام في قلب المناقشات السياسية، باعتبار أن التفكير في العدالة يدخل، في جميع الأحوال، في صلب التفكير في أزمات الديمقراطية الغربية. ويتمثل الصّالح العامّ، حسب ساندل، في العيش سويًّا كمجتمع، والسعي نحو مُثلٍ عليا، قوامها تقاسم المغانم والمغارم، والتضحية من أجل الآخر، والتعلّم سويّاً كيف نحيا حياة لائقة.
في كتابه «الليبرالية وحدود العدالة» (1982) جادل مايكل ساندل أطروحات جون رولز وروبير نوزيك من زاوية أنه لا يمكن مقاربة العدالة من دون استحضار مفاهيم الخير والحياة الطيبة. أما في كتابه «عدالة»2010»، وفي محاضراته عنها والتي تم تصويرها وتابعها ملايين من المشاهدين، فقد طور نقده للنفعية ولليبرالية مُبَيِّنًا أنه لا يمكن التعويل على مبدأ احترام الحريات الفردية فقط للحسم في توسيع السوق أو فرض قواعد حِمائية، لأنه يرى أن هناك انقلاباً كبيراً تشهده الديمقراطيات الحالية، تتمثل مظاهره في تنامي موجات الشعبوية في أوروبا، والبرازيل، وروسيا، وصعود ترامب، وحصول البريكسيت، وهي تمظهرات لأشكال احتجاج وتمرد على «طغيان الاستحقاق»، ونزعة الافتراس التي لا يكف النظام الرأسمالي على إعادة إنتاج آلياتها.
ليست التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي التي أنتجت الشعبوية وصعود اليمين المتطرف، بل تكمن الأسباب العميقة للتذمر والغضب الاجتماعي فيما يسميه بـ«إيديولوجيا الاستحقاق» التي تسلم بكون النجاح المادي هو مسألة جُهد ومثابرة وعزيمة ودأب. ففي كتابه الأخير «طغيان الاستحقاق» «ترجم إلى الفرنسية هذه السنة» يُبين كيف أن نزعة الاستحقاق méritocratie تؤدي إلى الاحتقار والاستبعاد، كما تؤدي إلى نسج أنواع مختلفة من التعاضد السياسي بين الطبقات الكادحة بسبب تعبيرات متنوعة من الإحباط، وإلى انغماس شرائح واسعة من المجتمعات الغربية في حالات من «انعدام الإحساس بالاعتراف»، وغياب تقدير الذات.
لذلك تُولِّد الجدارة، في الكثير من الأحيان، مشاعر من الاحتقار، لأنها، في نظر ساندل، خُرافة نسجها الرابحون من العولمة لتبرير التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية المتنامية. فإن كُنتَ عاملاً غير حاصل على شهادة محترمة فإن منطق الجدارة يقول لك: «إنك تكسب قليلاً لأنك تحصل على ما تستحقه، وفي كل الأحوال فالخطأ خطؤك»، لذلك، كما يقول الهندي بانكاج ميشرا، لم نعد نبالي بمشاريع النفع العام، وبدلًا من ذلك نتوقَّع أنْ تقوم الفردانيَّة «بإمدادنا» إياه وبتحريرنا. وهذا وهْم كبير في حاجة إلى كشف وتفكيك، لأن الاحتقار الطبقي يولد أزمة في «التقدير الذاتي» للإنسان داخل المجتمع الذي يعاني من الفوارق الصارخة، مما يؤدي إلى تنامي أشكال متنوعة من الاحتجاج والتذمر. 
والحال أن الجدارة لا أساس فلسفي لها، في نظر ساندل، وكثير من السياسيين يعتبرون أن مشكلة الجدارة هو أننا لم نحققها بالفعل. ومع ذلك فإن المنظرين الكبار لليبرالية المعاصرين كفريدريك حايك، وجون رولز، استبعدوا دائما فكرة أن الأشخاص يستحقون جزاءات السوق مقابل مجهوداتهم وممارساتهم لمواهبهم، وذلك لسببن اثنين على الأقل: أولا، أننا لسنا مسؤولين عن جاهزيتنا، وقدراتنا، ومهاراتنا، ولا عن طرق تثمينها من طرف المجتمع، وثانياً، أن الجدارة لن تكون أبدا مثالا عاديًا.
لا جدال في أن بعض الليبراليين، ومنهم جون رولز، اقترحوا نوعا من العدالة التوزيعية لثمار النمو الاقتصادي، لكن هذه الدعوات، في نظر ساندل، ليست كافية ولا تمتلك آليات تحقيقها في الواقع، كما أنه لا يمكن اختزال المُواطن في اعتباره كائنًا مُستهلِكًا، أو النظر إلى الاقتصاد من الزاوية الحصْرية للناتج الداخلي الخام. فالمواطن لا يشتغل من أجل توفير شروط أفضل للاستجابة لمتطلباته الاستهلاكية فقط، كما أكد ذلك مفكرون كبار من أمثال آمارتيا صن، ومارتا نوسباوم أيضاً، بقدر ما يسعى إلى الاعتراف به كمساهمٍ في إنتاج الخير المشترك الذي يخول له الشعور بمنسوب ما من السعادة، باعتبار أن العدالة التوزيعية هي التتويج الفعلي للشعور بالاعتراف الاجتماعي الذي تفتقده شرائح تزداد عدداً واتساعاً في المجتمعات الغربية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©