الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رحيل مستشرف «الأخوة الإنسانية»

رحيل مستشرف «الأخوة الإنسانية»
27 مايو 2021 04:08

إميل أمين

في السادس من أبريل الماضي، غاب عن عالمنا أحد كبار المفكرين اللاهوتيين الأوروبيين، الذين استشرفوا من بعيد مآلات الأخوة الإنسانية، وكيف ينبغي أن يعيش البشر عبر منظومة أخلاقية تلعب فيها الأديان دوراً تقدمياً، معتبراً أنه لا سلام بين الأمم من غير سلام بين الأديان.
رحل هانس كنج، المولود في 19 مارس 1928، في سورسي الواقعة في كانتون لو سيرن بسويسرا، بعد أن ملأ الدنيا بآرائه الجريئة، التي سبقت عصرها حتى لو كلفه الأمر متاعب مع المؤسسة الرومانية الكاثوليكية أول الأمر، وإن أدركت قيمته وأهميته فيما بعد.
تخرج كونج عام 1951 في الجامعة الحبرية «الغريغوريانا» بروما، وحصل على درجة الماجستير في الفلسفة، بتقديم بحث حول «النزعة الإنسانية الإلحادية في فكر الفيلسوف جان بول سارتر»، وفي عام 1955 تخرج في قسم اللاهوت من الجامعة نفسها، وحصل على الماجستير في اللاهوت، بتقديم بحث عن «عقيدة التبرير في فكر اللاهوتي كارل بارت»، فيما حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة السوربون بباريس، من خلال أطروحة بعنوان «التبرير: تعليم كارل بارت والفكر الكاثوليكي».
أفضل إرث خلفه كونج بعد حياة حافة بالفكر والاجتهاد، مشروعه الخاص بالأخلاق العالمية، وحجر الزاوية فيه الأديان الإبراهيمية. اعتبر كونج أنه من المهم بشكل حيوي من أجل ترسيخ بنية التواصل إدراك أنه على الرغم من الاختلاف بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، واختلاف النماذج المتنوعة التي تتغير على مر القرون والألفيات، فإن هناك ثوابت على المستوى الأخلاقي تجعل من الممكن بناء معبر يصل الجميع. في عمق كتاباته حدثنا كنج عن المشترك الذي نجده في كل التقاليد الدينية، الفلسفية والإيديولوجية، تلك الحتميات الأخلاقية البسيطة الملازمة لمفهوم الإنسانية، والتي ظلت تحتفظ بأهميتها البالغة حتى يومنا هذا، ومن بينها:
لا تقتل، أو تعذب، أو تصيب، أو تغتصب، أو بمعنى إيجابي: «احترم معنى الحياة». إن هذا يمثل التزاماً بثقافة اللاعنف واحترام معنى الحياة كلها.

تبدو إحداثيات هانس كنج بمثابة الأطر التي يمكن من خلالها احتواء أبناء إبراهيم كافة، والتي يجدها المرء في التوراة والإنجيل والقرآن، وجميعها تستند على مبدأين أساسيين:
أولاً: قبل كل شيء هناك القاعدة الذهبية، التي وضع كونفوشيوس إطارها منذ قرون عديدة قبل مجيء المسيح، وهي قاعدة معروفة في كل التقاليد الدينية والفلسفية العريقة، على الرغم من أنها تمثل شأناً ذا أهمية: «ما لا ترغب في أن يفعل بك، لا تفعله أنت في الآخرين»، على الرغم من أن هذه القاعدة تبدو أولية، فإنها تساعد في اتخاذ قرارات في شأن العديد من المواقف الصعبة.
ثانياً: تدعم القاعدة الذهبية من قبل قانون الإنسانية، الذي لا يمكن اعتباره تكراراً بلا معنى: «كل إنسان سواء كان صغيرا أو كبيراً، رجلا أو امرأة، معوقاً أو صحيحاً، مسيحياً، يهودياً أو مسلماً، ينبغي أن يعامل بشكل إنساني وليس بعكس ذلك». إن الإنسانية هي كل لا يقبل التجزئة.
هل كان هانس كونج مفكراً استشرافياً لفكر الأخوة الإنسانية؟
في كتابات كونج، تظهر واضحة إشكاليات عالمنا المعاصر، حيث يدرك الكثير من الناس أن درجة من التعقيد باتت تشمل كافة مناحي الحياة، من الاقتصاد إلى الاتصالات، مروراً بالتغيرات المناخية، والصراعات الدولية، الأمر الذي يجعل الحاجة إلى مفهوم أخلاقي يحمل البشرية في بوتقة إخوة إنسانية واحدة أمراً محبوباً ومرغوباً.
لم يأتِ هانس كونج بمعتقد جديد، وهو الذي رفض المناصب الدينية الهيراركية منذ وقت مبكر، ودائماً ما كان يشير إلى أننا لا نحتاج إلى نظام أخلاقي خاص، ولا ذلك النموذج الخاص بأرسطو أو توماس الإكويني، أو إيمانويل كانط، أو نظام جديد.

المعايير الأخلاقية
ما تحتاجه الإنسانية بحسب كونج، أخلاق بمعنى قناعة داخلية أخلاقية، وسلوك أخلاقي، ويؤكد في مشروعه على أننا بحاجة إلى بعض المعايير الأخلاقية التي يدرك الناس من خلالها أخوتهم الحقيقية التي يتوجب عليهم المضي في دربها، وكيف أنه بات عليهم أن يقوموا بنقل تلك الأخلاقيات إلى الأجيال الأصغر عمراً.
لم يتوقف فكر كونج عند معتقده الإيماني الكاثوليكي فحسب، رغم أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قد أوقفته عند التدريس في مجال العقيدة منذ عام 1979، بل خاض في عقول الآخرين، حتى من غير الإبراهيميين، وقد وجد على سبيل المثال عند الزعيم الهندي المهاتما غاندي الكثير مما يمكن لعالمنا المعاصر أن يقبل على الاستفادة منه.
يخبرنا كونج عن اعتقاده بأن الجميع سيقرون بما اعتبره غاندي الخطايا السبعة للإنسانية، والتي يمكن التغلب عليها على أساس الأخلاق العالمية، وتتمثل في: السياسة من دون مبادئ، الثروة من دون عمل، الاستمتاع من دون ضمير، المعرفة من دون شخصية، الأعمال من دون أخلاقيات، العلم من دون إنسانية، الدين بغير تضحية.
تبدو كتابات كونج ومنذ نصف قرن ونيف دعوة للتعبير والتغيير، التعبير عن جوهر كيان الإنسانية كأخوة، ودون أدنى اعتبار للاختلافات الطبيعية، كالنوع أو العرق، الدين، المذهب، والتغيير إلى الأفضل عبر قناعات مشتركة، وعنده أننا جميعاً نتحمل مسؤولية بناء  نظام عالمي أفضل، وإن جهودنا المبذولة من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، والحرية، والعدل، والسلام، والمحافظة على الأرض، هي ضرورية لا محالة.
نادى كونج دوماً بأن تقاليدنا الدينية والثقافية المختلفة جداً لا يجوز أن تمنعنا من أن نكافح معا كل أشكال اللاإنسانية بفاعلية، والسعي لإحلال مزيد من الإنسانية.
أكد كنج في كتاباته ورؤاه على أنه باعتبارنا أشخاصاً متدينين ذوي توجهات روحانية، ونؤسس حياتنا على حقيقة أخيرة أبدية، نستمد منها قوة روحانية، وأملاً، بالتوكل والصلاة أو التأمل الروحي، نطقاً أو صمتاً، لدينا التزام خاص جداً لتحقيق خير الإنسانية جمعاء، والاعتناء بكوكب الأرض.
في هذا السياق، نحن لا نعتبر أنفسنا أفضل من الآخرين، لكننا على ثقة بأن حكمة أدياننا العريقة في القدم يمكن أن ترشدنا إلى سبل المستقبل أيضاً.
من أفضل ما سطره كونج في كتاباته بشأن الأديان الإبراهيمية، قوله إن كل من الأديان الثلاثة لديها قوة كامنة مؤثرة من أجل المستقبل على أساس الثراء الروحي والأخلاقي، وإنه من الممكن أن تسهم بشكل أكبر من خلال التفاهم والتعاون، وأن أديان العالم الثلاثة جميعاً يمكنها أن تقدم إسهاماً لا يمكن الاستغناء عنه لعالم أكثر سلاماً وأكثر عدلاً.
ولعل أفضل خلاصة عند كونج قبل الانصراف رؤيته لسلام العالم والذي لن يحين موعده قبل أن يضحى السلام بين الأديان قائماً، وأنه لن يكون هناك سلام بين الأديان من غير حوار بين أتباعها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©