السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المهدي قطبي: إيقاعية الخط وأبجدية الألوان

المهدي قطبي
3 يونيو 2021 02:23

د. حورية الظل

يعتمد الفنان التشكيلي المغربي المهدي قطبي (من مواليد 1952) على العلامة الخطية لتحقيق منجزه البصري، وتنتظم هذه العلامات من اليمين إلى اليسار على طريقة كتابة اللغة العربية، ولكنه لا يحمّلها أية دلالة، لأنه يراهن على جمالية الخط وطاقته الاستطيقية، وحركيته، وليحقق ذلك اعتمد تشكيلات متباينة للخطوط، تتراوح بين السُّمك واللين واختلاف الألوان، والنور والعتمة، ولكن ما يوحّدها هو التشابُك والتواشُج والترابُط وملء الفراغ.
اعتمد المهدي قطبي في تجربته، تجريد الحرف العربي، حيث حاول التملُّص من هذا الحرف، وحافظ على روحه وجوهره فقط، وما أخلص له هو حركية الخط وتكراره وتواشجه وتشابكه. فاستوحى بذلك مفاهيم العقيدة والرؤية الصوفية للوجود، حيث الجزئي يؤدي إلى الكلي، والتنوع يؤدي إلى الوحدة.

استثمار التدرجات اللونية:
وليضفي التميز على أعماله، فقد استثمر التدرجات اللونية في تشكيله للخطوط في تشابكها وتداخلها، فنجده يزاوج بين تلك السميكة والرفيعة، أو يوحّد حجم الخطوط في كل لوحة على حدة، ويوزعها على مساحة اللوحة كاملة بهدف خلق حركية مؤكدة ناتجة عن التواشج والتكرار، فوظف بذلك العلامة الخطية كهوية ثقافية وعلامة حضارية، وهو بذلك يكون قد استوحي الخط العربي، ويعبر عن ذلك بقوله: «بالنسبة لنا نحن العرب، الرسم بدأ من خلال الكتابة... والكتابة تعطينا قبل كل شيء الشكل الهندسي.. أنا أسعى لتقديم الثقافة العربية للعالم من خلال لوحاتي التي ترتكز على استخدام الحرف، وأريد أن أؤكد أن هذه الثقافة لا تزال حية وحديثة».

الإيقاع وفتنة الحرف:
أعاد قطبي من خلال أعماله الفنية، استغوار فتنة الحرف في هندسيته وحركيته، فحقق بذلك موسيقية وإيقاعية منجزه البصري، وأيضاً جماليته، حيث يوزع قطبي الخط توزيعاً جمالياً، فيجعله يسري على مسطح اللوحة كاملاً، فيُحدث إيقاعاً، يهدف من ورائه ملء الفراغ وأيضاً يحقق خصوصية تجربته، فيكون بذلك قد أكد ما قاله فاسيلي كاندنسكي: «إذا أراد الفنان أن يفهم بلبّه ما هو ممكن للإحساس، عليه أن يقلب كل شيء رأساً على عقب»، وإذن، فقد قلب، قطبي، معاني الحرف رأساً على عقب لما تملّص منها، وبذلك لم يتحيّز لمتلقٍّ محدد، فنجد أعماله عالمية النبرة.
وبذلك يستبطن قطبي عمق الخط الروحي والجمالي، الشيء الذي جعل تجربته ترقى جمالياً، فيلتقي بذلك مع المتصوفة الذين يرون أن: «الأفق الحركي هو ثاني الأبعاد الوجودية في الرؤية الصوفية للجمال، وذلك لأن الحركة الحية وعي جمالي، وجزء من جمال أي موضوع، وعامل في تكامل جماله، إنها حركة ليست مادية فحسب، وإنما هي جمالية أيضاً، فالوردة يتكامل جمالها باطراد حركة نموها... وسر جمال الكواكب في حركة جريانها»، ويدافع الفنان عن أسلوبه في تناول العلامة الخطية بقوله: «ينتقدني البعض بأن الحروف التي أستخدمها، في لوحاتي خالية من المعنى، وهذا شيء مقصود، لأن ما يهمني في الحرف العربي هو الإيقاع الموسيقي الذي يحرك المخيلة الفنية ويطلقها في آفاق غير محدودة».
ومن ثم، فإن التكرار لدى قطبي، يخلق حركية في منجزه البصري، فيغطي بذلك فراغات مساحة اللوحة عبر تكرار الأشكال والألوان التي يزاوج بينها، فيمتلئ الفضاء البصري للوحة إلى حوافِّ الإطار، فيحافظ بذلك على روح التراث دون تقليده، وحسب عبد الكبير الخطيبي فإن الحرف عند قطبي: «يتوالد بحيث يتكرر الحرف نفسه إلى ما لا نهاية، بغزارة وحيوية، نجد أنفسنا معها أمام هوس بالعلامة المكتوبة المليئة حتى الإشباع، والفارغة في الآن نفسه».
وهذا التكرار للعلامة الخطية، يوحي بلا نهائية العلامات، ويمنح المنجز البصري إيقاعاً موسيقياً ومحفلاً بصرياً يوحي بالاستمرارية، كما يتملك مسطح اللوحة نبضاً منتظماً يتخلَّق من تكرار الحروف وتجاورها وتداخُلها وتواشُجها وتشابكها اللانهائي، بطريقة فيها الكثير من التناغُم والتلاحُم.
وفي توظيف قطبي لتداخل العلامة الخطية واللون، يغلّب ثلاثة ألوان تتمثل في الأحمر والأزرق والأسود، مع استثماره لتدرجاتها اللونية، فيخلق بذلك نوعاً من الإيقاع الناتج عن التضاد بين الألوان الباردة والحارة، ليحقق إحساساً بصرياً بالنعومة والخشونة، والعتمة والضوء.

الزخرفة والتوريق:
مما يميز تجربة المهدي قطبي أيضاً، تأثره بالزخرفة وفن التوريق، فنجده يكرر الأشكال الهندسية والنباتية، أو ما يوحي للمشاهد أنه شكل وجه أو قناع، وهذه التقنية نجدها عند «بول كلي» أيضاً في إحدى لوحاته، وبمراعاة الموقف الديني من التجسيم والتصوير، ظل المهدي قطبي، في رسمه للوجوه، مخلصاً لهذا الاتجاه، فانزاح عن تصويرها المباشر واكتفى بالإيحاء بها مع تكرارها، كما استوحى المنمنمات، فاعتمد تصغير العلامة الخطية وتكرارها وتلوينها بطريقة التلوين في المنمنمات، وأخلص لانسيابيتها وتشابكها، وتواشجها، فانزاح عن الشكل الأساسي للحرف، وجعله قريباً من الأشكال النباتية من حيث الشكل والتلوين، فربط بذلك بين ما هو مادي، وما هو روحي، فارتقى بتشكيلاته الخطية لتخاطب الروح بعمق أبعادها وكذا العين بجمال الألوان.
لقد حقق قطبي خصوصية تجربته من خلال استثماره للعلامة الخطية بتنويعاتها الهندسية وتشابكها وألوانها، مع إخلاصه لملء الفراغ، كما انفتح على العالمية، فهو يوجه أعماله لكل المتلقين، من كل الثقافات واللغات، ومتلقي أعمال المهدي قطبي، لا يظل خارج التجربة وإنما يعد شريكاً فيها، حيث ينتقل من المشاهدة إلى الانخراط الوجداني، ويغوص في عمق اللوحة، فيستغرق بالنتيجة في تجربة متخيلة تغرق فيها الروح.
ولم يبق قطبي سجين اللوحة المسندية في تشكيلاته للعلامة الخطية، وإنما استثمر هذه العلامة في مواقع أخرى، فوضعها على الحلي وعلى تصاميم الأزياء، ساعياً بذلك إلى عدم الاستمرار في اللوحة المسندية التي يحاول الكثير من الفنانين تجاوزها في الفن العربي المعاصر، مجرّبين طرقاً جديدة تحرر الفن أكثر من ثقافة الصالونات والمعارض، وتخرجه من قوقعته للحياة الواسعة لينفتح على كل شرائح المجتمع ولا يظل حكراً على طبقة دون أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©