الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عبدالله صقر.. يعود شعرياً!

عبدالله صقر.. يعود شعرياً!
16 سبتمبر 2021 01:21

لولوة المنصوري

عن حماسة فتى عشريني مثقف، يخطو بتحدٍّ خطوته الأولى نحو مطبعة «بن دسمال» في سبعينيات القرن العشرين، الواقعة قرب شارع آل مكتوم في دبي عام 1975، لتصدر له المطبعة في الزمن الصعب قصائد «اغتراب في زمن مسلوب»، وقصص «الخشبة»، ثم ما لبث أن اختفى ذلك الفتى الكاتب عن الساحة الثقافية ومطابع النشر والناشرين لزمن امتدّ أربعة عقود. تصلنا أصداء مغامرته المتواصلة في عالم الرياضة واحترافه كرة القدم، يتدفق حماسه في الرياضة، ويتدفق حماسنا في السؤال الدائم: متى يعود؟
في الثامن والعشرين من شهر يناير لعام 2019 يجسّ الكاتب بشوقه نبض الثقافة من جديد بعد غياب وصمت طويل، وعبر ندوة انعقدت في نادي القصة، في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بادرنا بالسؤال الحماسي: متى يعود عبدالله صقر؟
وتأتي الإجابة: «كانت لي بالطبع تجارب أدبية أخرى، بعضها لم يرتقِ للنشر، ودائماً ما أستدعي أفكاري في فترة السبعينيات، ولكني لا أريد أن أبقى عالقاً فيها».
يعود الزاهد عن النشر بعد اختفاء تام.. دام لأربعة عقود من الزمن، الكاتب عبدالله صقر يعود اليوم إلى النشر وبعودته ينبعث زمن جميل، بدايات التأصيل والتأسيس السردي الشعري في الإمارات، فاتحاً بهدوء باباً على الريح القاسية، ودفعة واحدة ينثر بعيداً عنه قطعاً مظلمة من الليل، 200 نص موزعة على 285 صفحة*، هي جزئيات الكينونة النقية، حلّقت بأصالة من فضاء زمني دامت فيه الكلمات حبيسة القلق والتردد السّجاليّ، ويُصرّ الشاعر اليوم أن يُوسمها بالفاصلة:
فاصلة هو هذا المدى
فاصلة في جملي المركونة في كل مكان

سماء الكلمة
بعد «الخشبة».. وحدوث ذلك الاحتجاب، ها هي العودة تحدث على شكل تراقص لغوي في مدار صوفيّ، يرتهن إلى خطاب التعطّش للجمال المطلق، مسكوناً بفضاء لفظي حُرّ خاص به بعيداً عن تنميق الكلام، مستعيداً مسيرته في التمرد على القوالب، فكما حدث في القصة يوماً ما، يحدث الآن مع الشعر، في هذه النصوص التي تمثل حالة تأملية باطنية مُلحّة، لا يتعلق الأمر بالخضوع لقواعد محددة سلفاً وخاضعة للتصنيف الجامد، وإنما لغة هادئة سخيّة لا يقيدها حدّ، ولا يعتريها ثقل، تُفسح الطريق أمام انكشاف بؤر من نور داخل جدار العتمة، أمام حفلة «إنصات» لاتحاد الكلمة بفضاء الشعور، عبر حسٍّ مسكون بمنهج وجودي في الحياة، بل العبور إلى ما وراء الشعور والوجود الموهوب للنظر.
حالة إذعان للزمن والإيمان بأن كل شيء قد مرّ بحكمة واكتشاف، وسيمر دون توقف عجلة المخيال في البُعد الحسيّ الجمالي. هي نصوص تسائل فعل الحياة بجانبيها المضيء والمظلم، حالة امتلاء واكتفاء وإذعان تشكل مدخلاً لسماء الكلمة المجرّدة المُخففة من حدود المبهم، والمسكونة في الآن نفسه بالطلسمية التي على الأغلب تُدرك بطريقة حدسية، قد يُطلق عليها عبدالله صقر وفق مكنون دلاليّ «لحظة التصفير»:
بعد لحظة التصفير
لم أعد أعرف من أين يمكن أن أبدأ، 
اللحظة القصيرة من عمرك، التي من الممكن أن تطلق عليها لحظة التصفير
تكون لحظة انحسار لا يتمناها القلب!
يتلاقى الشاعر بالترميز الشفاف بعيداً عن كل سياج، منادياً في الأرض: «أيتها الحدود.. ستظلين اختبار مسافاتي». إنه اندماج حميمي مع البدء الأزليّ الذي ولدت في رحمه اللغة والدلالة، الفضاء الأول المعانق لروح الفوضى والعزلة والكثافة الشعرية، هي نصوص التوق إلى الإفلات من جدار العالم وأسطحه المتكلسة ونظامه البائد، وبحث حرّ داخل الذات المتأملة والعابرة للمحطات الموهوبة للعدم. نصوص مكتفية بطاقة الشعور والقوى الكامنة في الروح، وهي في الآن ذاته تنشد الانفتاح، وتنزع إلى الترقي، وتنزاح فيها الأسيجة، تتعطش للحب، وتحِن إلى الوطن الإنسانيّ الأول في رحم الأرض:
تشدّني وأشدّها
تحتويني كشجرة تأخذ بعضها
ذلك النهار الطويل البعيد
المترامي الأطراف كالوطن
خلف البحر الذي ظل من غير أفق
تنتظِر فأكبر
أكبر فتبكي خلف البحر الكبير
وتنتظر
في وضح النهار المترامي الأطراف
تشدّني إليها
حيث يقف أبي خلف حروفه المتأصلة
حيث أقف ولا أعود أدراجي كفاصلة
تشدّني كقلعة عمقها التاريخ
آه.. حينما يكبرُ الصّغار
حينما تُرسَم الأحلام
وحينما تزدحم الشوارع
يأخذ التسارع نصف العمر والسلام
تلك أمي الوحيدة التي هناك تنتظر.

شعاع المعنى
ها هو القاص يعود شعرياً بعد أن أضاع قدميه في تغميسة الزعفران التي جعلته يكبر في يوم واحد (ص: 283)، ويصير المدى مشاركاً له في الطريق.. يعود.. ويصرُّ على عنوان نصوصه «قطع مظلمة من الليل»، متشبثاً به كعقيدة قديمة، كصلة رحم، كذاكرة عتيقة، كتعويذة على صدر مهده، يُطلّ العنوان مُحدثاً هو الآخر وهماً جذاباً ودافعاً لإعادة خلق المعنى، والبحث عن أصل الظلمة في خريطة نصوصه الطافحة بشعاع المعنى. فأي علاقة حيّة جدلية هذه مع الخطاب الضدّي للغة وحدود المبهم المراوغ فيها؟!
يعود الشاعر مكتفياً من الغايات الكبرى وراء التجنيس الأدبي، بالإصرار على المسير في الومضات الفسيحة المفتوحة أمام الرّوح الشعرية وتمزقات الوجود غير القابلة للاحتباس داخل حدود الأجناس.. يعود الزاهد بزهد أكبر، عناد أكبر، معلناً لنا بقوله: «كل زاوية تفوح بحبر قلمي تظل بيتي». الزهد في هذه العودة متمثلاً بفلسفة حياة عفوية يقينية، بأن بيت الكتابة بلا أركان، وزوايا الأرض هي روح من حبر الأقلام التي ترتوي منها الكلمات والشقوق والثغور والكهوف والبحيرات العظمى ومجاهيل الكون.. ذلك هو الحضن الأكبر للصمت واستفزاز الفضول، وبين صمته وفضوله، يحلّق كقوس قزح بلا ضوضاء!

*عبدالله صقر، قطع مظلمة من الليل (نصوص)، دار العنوان، ط1، 2021م.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©