الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كيم كي-دوك.. الابن المدهش للسّينما الكوريّة

كيم كي-دوك
21 أكتوبر 2021 07:02

بقلم: أنطوان كوبّولاّ
ترجمة: أحمد حميدة

لقد اُفتتحت سنة 2021 باختفاء المخرج الكوريّ كيم كي-دوك، الذي ولد عام 1960 وغيّبه الموت في 11 ديسمبر 2020، بلَطْفِيا على إثر إصابته بوباء «كوفيد-19» ورغم اختفائه المبكّر، كان مبدع الرّوائع السّينمائيّة الشّهيرة مثل «الرّبيع، الصّيف، الخريف، الشّتاء» (2003)، و«المستأجر» (2004)، و«بياتا» (2012)، و«موبيوس» (2013)، وقد عاش في المنفى بعيداً عن موطنه الأصليّ، وحاز رغم التّيه والنّفي والغربة القسريّة، عشرات الجوائز في المهرجانات السّينمائيّة العالميّة المرموقة، ليصبح محلّ تقدير وتوقير من قبل جموع غفيرة من المتيّمين بالسّينما الآسيويّة في العالم.
منذ بداياته الأولى وبعد إخراجه شريط «التّمساح» الذي استلهمه من «عشّاق بون نوف» لليوس كاراكس، كان هذا السّينمائيّ المتّقد حماسة، الذي أمضى بضع سنوات في فرنسا كرسّام، قد أصبح مصدر سجال إعلاميّ محتدم أسهم في زعزعة تجربته، وأزعجه إلى وقفات تأمّل مع الذّات لإعادة النّظر في مسيرته الفنيّة.. لقد أُخذ عليه في أفلامه الأولى تقديمه لصورة مشوّهة عن المرأة الكوريّة التي بدت في أعماله مدحورة، سهلة الانقياد ومنذورة لحياة متهتّكة ومنحرفة، لذا.. ألفيناه بعد إحساس بخيبات أمل متكرّرة، أكثر حرصاً على تقديم ملامح معدّلة عن المرأة الكوريّة تكون أقلّ استفزازاً للإعلام الرّسمي. 
بعد تصالحه مع وسائل الإعلام غير الرّسميّة، يحصل على جائزة النّقد السّينمائي بفرنسا، ليعود ما بين 2009 و2010 بشريط «لا بييتا»، ذلك الشّريط الاستثنائيّ الذي حقّق نجاحاً باهراً في مهرجان كانّ السّينمائي عام 2011، والذي حصد على إثره كيم كي-دوك جائزة الأسد الذّهبي في مهرجان البندقيّة الدّولي.

ملصق «لا بييتا»
ومذّاك، غدا كيم كي-دوك أشدّ حرصاً على طرق المواضيع السّياسيّة والخوض في الجوانب الظّلاميّة من التّاريخ الكوريّ الحديث، فأخرج عام 2016 شريط «مابين الضّفتين» الذي لم يكتب له الانتشار عالميّاً، ولكنّه كان مع ذلك من أكثر أفلامه ثراءً وتجديداً في المسيرة الفنيّة للسّينما الكوريّة.
بعد أن قبض عليه عام 2017 بتهمة التّحريض على العصيان، ومأخوذاً في دوار دوّامة قضائيّة وإعلاميّة خانقة، غدا كيم كي-بوك من جديد محلّ محاكمة إعلاميّة حالت دون ظهور آخر أفلامه، التي اختيرت رغم ذلك لتكون من ضمن الأفلام المتنافسة في مهرجان برلين الدّوليّ، لذا.. أقرّ العزم على مغادرة بلده والاستقرار بكازاخستان، قبل أن يستقرّ بصورة دائمة في منفاه بلطفيا، وأن نختزل مسيرته الفنيّة في عذاباته القضائيّة والإعلاميّة تلك، فإنّ ذلك قد يحجب عنّا حقيقة أنّ هذا الفنّان كان بحقّ من أبرز رموز الطليعة السّينمائيّة الكوريّة على المستويين الجمالي والاقتصادي (إذ عمل بقوّة من أجل سينما كوريّة تكون حقّا مستقلّة)، متعاطياً بإمعان مع المواضيع الأكثر جرأة وجسارة، التي تخصّ أوضاع كوريا الشّماليّة حيث النّظام الشّموليّ الكاسح، كما أوضاع كوريا الجنوبيّة حيث النّظام الرّأسمالي الطّاغي.

جماليّة متشنّجة
بدا كيم كي-دوك منذ أفلامه الأولى وكأنّه يتلمّس جماليّة متشنّجة ومتفلّته، أي تلك الجماليّة التي كان أندري بروطّون يحفز إليها أتباع الحركة السّورّياليّة، ففيما كانت السّينما الكوريّة في التّسعينيات ترزح تحت ركام من الأفلام الميلودراميّة، التي يتوارى فيها البعد البصري أمام القصّة الوعظيّة، كان كيم كي-دوك من خلال أفلام مثل «التّمساح» وخاصّة «الطّير المقفّص» قد انطلق في بحث جذريّ عن أسلوب جديد لبناء أطر الإخراج السّينمائي (مرفوق بإحالات عديدة لفنّ الرّسم) وعن منهج آخر لتوظيف الألوان وجعل الخطاب السّينمائي خاضعاً في مكوّناته وأبعاده أساساً للانفعال البصري، وغالباً ما جاء ذلك الانفعال مزعجاً وفاجعاً، كما في شريط «الجزيرة» الذي كان بمثابة البيان الجمالي الخاصّ بكيم كي-دوك، وفي هذا الصّدد سوف تظلّ المرأة-الجزيرة التي كانت تُلمَح من زاوية صعوديّة في نهاية هذا الشّريط، من اللّقطات الفارقة حقّاً في تاريخ السّينما.
في هذا الشّريط الذي كانت بطلته امرأة باغية، والذي كانت أحداثه تدور في قرية بحيريّة لصيّادين مذنبين، اصطبغت المشاهد بأطياف من رسومات إيغون شيل وفان غوغ، نافستها ألوان الرّسومات الآسيويّة لأوتاغوا كوني يوشي ولين فانغيان، وجاءت الطّبيعة في تكوين لوحاته متداخلة ومتراكبة، ولن تخفى على المتفرّج لا الشّراسة ولا الجمال المتشنّج للأبعاد النّفسيّة الرّمزيّة التي كانت تتجسد في التمثّلات المرئيّة للمخرج، خاصّة في المشهد الذي بدت فيه البطلة وهي تنتشل عشيقها بصنّارة مغروسة في حنجرته.
وقد برزت في أفلامه التّالية استعارات مستلهمة من البوذيّة (لم يكن كيم كي-دوك متديّنا، ولكنّه عمل على معالجة المسائل الدّينيّة بمنظار فلسفي)، استعارات ستثمر ذلك المشهد الشّهير للمستأجرين، الذي كان واقعيّاً ومتخيّلاً في آن، والذي لم يعد فيه للرّجل المعانق للمرأة أيّ وزن يذكر على كفّة الميزان الأخلاقي، أو أيضاً ذلك المشهد الذي بدا فيه نفس الرّجل، بعد طول تأمّل وممارسة للرّياضات المختلفة، غير مرئيّ وحاضر رغم ذلك في نظر سجّانيه المتشدّدين.. لقد دفعت التّجارب الجماليّة في أفلام كيم كي-دوك بالحدود المعتادة السّينما الكوريّة.. إلى الأقصى، وهي التي أدمنت على عرض المشاهد العارية في الميلودراما الجنسيّة الذّكوريّة، والدّماء في أفلام الرّعب المتاحة لأحداث السنّ.

رمزيّة البدايات
كان كيم كي-دوك يريد أن تكون السّينما في خدمة الفنّ، ولم يتباطأ النقّاد لمؤاخذته على ذلك، غير أنّ هذا السينمائيّ المتوهّج كان قد قطع بكبرياء الفنّان مع الفكرة الشّائعة التي كانت تريد أن تكون الأفلام توافقيّة وتعليميّة، وبعد النّجاحات العالميّة للـ«المستأجرون»، «الرّبيع، الصّيف، الخريف، الشّتاء»، سوف يتخلّى كيم كي-دوك أو يكاد عن هوسه الجماليّ المستفزّ ذاك، ليتصالح مع المشاهدين الكوريّين الذين أبدوا استيائهم من أفلامه، وقد اعتمدت أفلام فترة المصالحة تلك، مثل «الزّمن» (2006)، «النّفس» (2007)، على ما يشبه أسلوباً مضادّاً في الإخراج، على غرار الأسلوب الذي لاذ به المخرجان لويس بينويل وكلود شبرول. 
وتراجعت تبعاً لذلك تأثيرات البنية اللّونيّة والتركيبيّة لأفلامه الأولى، ليعود كيم كي-دوك إلى رمزيّة البدايات، إلى ما يشبه الفنّ الخام المنجز على عجلة، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ضغوطات التّمويل الذي كان محدوداً رغم مراكمة كيم كي-دوك للجوائز، وإلى أنّ الإخراج السّينمائي الخالي من الزّخرفة، كان بالنّسبة لكيم كي-دوك خياراً حتميّاً بالنّظر إلى الوضعيّة الحرجة لهذا السّينمائيّ في الصّناعة السّينمائيّة المحليّة بكوريا. 

ما بين ضفّتين وكوريّتين
يسرد شريط «حيوانات مفترسة»، أحد الأفلام الأولى لكيم كي-دوك، قصّة لقاء بين كوريّةٍ شماليّةٍ وكوريّ جنوبيٍّ مقيم في باريس، ولكنّ هذا الشّريط لم يلفت إليه اهتمام النقّاد، ولم يحظ بالتّوزيع الذي يستحقّ، وبعد أن كان منتجاً لفيلمين آخرين عن كوريا الشّماليّة كان لهما نفس المصير، قرّر كيم كي-دوك عام 2016 إخراج شريط «ما بين الضّفّتين» بنفسه.
لقد كان ذلك الشّريط من أفضل الأفلام التي تطرّقت إلى الصّراع مع كوريا الشّماليّة، إذ ميّز فيه كيم كي-دوك بين النّاس العاديّين الذين لا وجاهة لهم (مع أنّهم لا يفتقرون للحماس والوعي والدّعابة)، وبين الفئات الميسورة والمناورة في المجتمع الكوري الجنوبي، ورغم غياب كلّ دعاية صاخبة ومثيرة، أمكن لهذا الشّريط كسب أعداد غفيرة من جمهور المقبلين على قاعات السّينما بكوريا الجنوبيّة، إذ استعاد فكرة شريط «الأسرة الحمراء» الذي اهتمّ بأوضاع النّاس العاديّين من كوريا الشّماليّة.
لقد تعلّق الأمر بجواسيس شماليّين يعملون بالجنوب، وكانوا ضحايا الاضطهاد المرير السّائد بكوريا الشّماليّة كما بكوريا الجنوبيّة، ويتعلّق الأمر في «ما بين الضّفتين» تحديداً.. بصيّاد شماليّ بائس وقع مصادفة أسير كمّاشة مخابرات كوريا الجنوبيّة المعادية للشّيوعيّة.
 وإذا كان شريط «الأسرة الحمراء» قد تميّز بوجود تناوب بين الوضعيّات الكوميديّة والأحداث الدراميّة، فإنّ السّرد جاء في «ما بين الضّفتين» ثابتاً ورافضاً المبرّرات العبثيّة للقوى المتصارعة في كوريا الجنوبيّة أو في كوريا الشّماليّة، لقد رسم هذا الشّريط ملامح صيّاد كان لا ينكر حلمه بالثّورة، ولكنّه سيُدفع قهراً إلى الانتحار من قبل القوى المناورة في بلده، ولم يكن هذا العمل ليروق للمحافظين المناوئين للشّيوعيّة ولا للنّظام اللّيبرالي الذي سوف يتأسّس سنة خروج الفيلم إلى قاعات العرض. لذا.. كانت سياسة اليد الممدودة للشّمال بالنّسبة لكيم كي-دوك لا تعدو كونها سياسة صفقات رابحة كانت تُعقد باسم النّزعة القوميّة الجديدة، التي كان من المفترض أن تكون متقاسمة بين الجنوب والشّمال.
وإن ظلّ كيم كي-دوك وحيداً في دفاعه عن موقفه من كوريا الشّماليّة، فقد كان أيضاً من القلائل الذين تصدّوا بنقد لا يشوبه التباس، نقد شرس ومباشر للمجتمع الكوري الجنوبي، وذلك منذ بداية مسيرته الفنيّة المكلّلة بالنّجاحات ولكن أيضاً بالكثير من الإخفاقات، وها أنّ الموت قد باغته وهو في أوج عطاءه، ولم يسعفه كي يقول كلمته الأخيرة. 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©