السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عقلانية.. واقعية.. جدوى.. في فهم النهج الحضاري الإماراتي

عقلانية.. واقعية.. جدوى.. في فهم النهج الحضاري الإماراتي
2 ديسمبر 2021 01:06

د. عزالدين عناية

لمّا صاغ عالم السياسة الأميركي جوزيف صامويل ناي مصطلح القوة الناعمة في مقابل القوة الجارحة أو الخشنة، كان من أوكد ما ألحّ عليه، وهو حاجة الحضور في ساحة التأثير اليوم إلى خلقِ وفاق عماده الإقناع لا الإكراه، وما يدعم ذلك التمشّي من مشروعية السياسات وواقعية الخيارات، المستنِدة إلى قيم وأعراف وتقاليد. وبيّن أنّ هيبة الدول ما عادت منحصرة في قوتها الاقتصادية والعسكرية، بل في ما تشِيعه من ثقافة معيشية وقِيم مدنية، وما يدعم ذلك من مخزون حضاري. وقد جاء نحتُ مصطلح القوة الناعمة بالأساس، للَفتِ نظر الولايات المتحدة إلى فاعلية هذا الجانب الخفي والمدلول اللامرئي للفعل البشري. وعلى ذلك الأساس جرى التنبيه إلى أنّ القوة الخشنة غالباً ما تؤدي إلى عكس ما هو مرجوّ، وقد تجهز على ما هو منشود. لكن في ظلّ هذا التمييز بين القوتين، تبدو القوة الناعمة بمثابة السهل الممتنع على كثير من الدول الساعية إلى حضور مشرّف في الساحة العالمية.
في زمن سالف، وربما إلى عهد قريب، ما كانت القوة الناعمة مَقدَّرة أو مراعاة في الساحة الدولية. ولكن مع تطور الرصد للفعل الحضاري والتأثير السياسي والنفوذ المعنوي، باتت مراكز الأبحاث تولي هذا القوة اعتباراً ودوراً وترصد آثارها وفاعليتها. بوصفها لا تقلّ شأناً عن القوة الجارحة وقد تفُوقها بأشواط من حيث التأثير والنفوذ. سجّل التاريخ كلمةً معبِّرة في هذا الصدد، حين تمّ الاستخفاف بقوة حاضرة الفاتيكان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لما كان كبار العالم يتقاسمون النفوذ على كوكبنا. تساءل ستالين حينها هازئاً عن عدد الوحدات العسكرية التي بحوزة البابا؟ حتى يُحسب له حساب مع الممسكين بمقاليد العالم. وبالفعل كانت نظرة ستالين قاصرة، إذ ذهب الاتحاد السوفييتي وبقي الفاتيكان، والظاهر أن ستالين قد أَعمته القوة الغاشمة وغفل عن القوة الناعمة التي تملكها الكنيسة الكاثوليكيّة، فكانت الأيام هي الكفيلة بالإفصاح عن هذه الإجابة.

درب الإبداع والإنماء
اليوم حين تحتفي دولة الإمارات بعيد الاتحاد الخمسين، فهي في واقع الأمر تجدّد العهد مع محطّة محورية من محطّات الصعود الحضاري، بما حقّقته هذه الدولة الفتية من إنجازات في سلّم الرخاء والازدهار، وما قطعته من أشواط على درب الإبداع والإنماء، ممّا حول هذا البلد إلى ما يشبه اليوطوبيا في مخيال كثيرين. فليس هيّناً أن تتحول دولة، في ظرف وجيز وبإمكانيات متواضعة، إلى منصّة متقدّمة للتطور الحضاري وإلى مختبر هائل للحداثة البشرية، ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم بأسره، تشرئبّ لها الأعناق طلباً للخبرة والاستلهام والمحاكاة. ومن هذا الجانب تلوح الظاهرة الحضارية الإماراتية جديرة بالدراسة والمتابعة عربيّاً، بقصد الإلمام بأسباب النهوض والفشل ضمن السياق العربي العام، وما أحوجنا إلى ذلك.
فقد اختارت الإمارات في هذا المنجَز الحضاري، وضمن رؤية ذكية، الرهانَ على امتلاك مقدّرات القوة الناعمة بوصفها الطاقة النظيفة المحفِّزة والداعمة لعملية النهوض والإشعاع. وبوصف تلك القوة هي فعلٌ مؤثّر ومدعاة لحضور إيجابي في الساحة العالمية، يتطور من خلاله كسب ثقة الآخر في ميادين شتى. وقد كان هذا الخيار متأصّلاً وبارزاً منذ إرساء دعائم الدولة الفتية قبل خمسة عقود. وذلك باعتماد عقلانية الخيارات ونفعية المسارات، بعيداً عن المغامرات المتهوّرة. وكان التجلي الأبرز لتلك القوة الناعمة في الخيارات التنويرية والعقلانية على مستوى الفكر والثقافة والإبداع، المستثمَرة في الداخل والمصدَّرة بسخاء نحو الخارج، عبر المؤسسات والجوائز والتأهيل والدعم والتعاون. أتى كلّ ذلك دون تنكر للموروث الحضاري أو أيّ تصادم مع الهوية الذاتية، الأمر الذي حوّل الإمارات إلى مبعث للإشعاع التنويري في الخارج وأكسبها تقديراً وحظوة لدى كثير من الشعوب.
وفي هذا السياق من الطبيعي أن يتكرّر سؤال: ما الذي يُحوّل دولة ما إلى دولة فائقة القدرات؟ لا ريب أنّ ثمة من يتسرّع في الإجابة عن الحالة الإماراتية باختزال مسيرة التحول في وفرة الريع البترولي. وهو على ما نرى تبسيط مخلّ ومتسرّع للإجابة عن سؤال حضاري في غاية التعقيد والغور. لأنه وببساطة كم عدد البلدان التي تزخر بثروات طبيعية طائلة في كوكبنا وقد أخفقت في التحول إلى قوة حضارية فاعلة؟ وربما عادت عليها تلك النِّعم بالوبال والنقمة. ومن ثمَّ فالمسألة الحضارية هي أعمق من ذلك الاستسهال، وحري تلمُّس الإجابة عن الإنجاز النهضوي في رؤية أشمل وأعمق.

العقلنة والواقعية والجدوى
وبالتالي الأمر يدعو إلى تأمل جاد في ظاهرة النهوض الحضاري للدول، فحين يرى المتابع للصعود الإماراتي وقد أصبح النهوض في مجالات شتى، وبات من علاماته السيميائية مراوَدة النجوم والكواكب التي آخرها المريخ، يتساءل المرء أين تمكث دعائم القوة الدافعة لهذا النهوض وفي ما تتمثّل؟
لا يمكن لتفكير جاد يرنو لتفهّم التحولات الحضارية، إلا أن يخلص إلى أن العملية النهضوية في الإمارات هي نتاج استثمار متداخل واشتغال متشابك، يمكن حصر دعائمه في ثلاثة عناصر: العقلنة والواقعية والجدوى. والمراد بالعقلنة وهو استثمار التوجيه العقلي والتخطيط العلمي في الفعل المجتمعي في شتى مناحي الحياة، وأما الواقعية فهي التعامل مع الوقائع والنوازل والمجريات برَوية وحكمة بعيداً أي اعتباطية أو غلوّ أو عواطف جياشة، والجانب الثالث في هذا المكوَّن الثلاثي الأضلاع وهو الجدوى ذات المقصد النفعي، والتفكير الدائم في مردودية الفعل وأثره وعواقبه، لا البراغماتية المتملّصة من أي منزَع إنساني وقِيَمي، وذلك ضمن قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد.
فلم يأت المنجَز الحضاري الإماراتي من فراغ، وقد كان التعويل على إشباع حاجات الفرد الروحية والمادية، أي تلبية حاجاته المواطنية الجوهرية من مناعة وكرامة موفّى. وهو ما يمكن أن نطلق عليه الاستثمار في عائدات «الفضيلة المدنية»، أي الاشتغال على الإنسان كرأسمال، من حيث العناية به والرعاية له. ذلك أن من مزايا «الفضيلة المدنية» أن تربّي في الفرد الحسّ بالمسؤولية المدنية. وهو ما يتجلى اليوم في تلك القوة الناعمة المنبعثة من كيان الدولة التي قامت على بناء وطن ينتمي إلى مواطنيه، ويضع نصب عينيه المواطن كرصيد ثابت.
ودائماً ضمن تحليل الظاهرة الحضارية في هذا البلد، فالملاحظ أنّ الإمارات ببلوغ تلك المنزلة في الرقيّ بالداخل لم تنغلق على الخارج، ولم تستأثر بتلك النِّعم مُزْوَرّة عمّن حولها، بل شرعت أبوابها على مصراعيها حتى حولت البلد إلى مُجمَّع كوسموبوليتي هائل تتنافس فيه العقول البشرية على الإبداع والعطاء والإضافة. فكانت الثقافة والفنون الحلبة البارزة لهذا الانفتاح. واستطاعت المنصات الراعية للإبداع، أي من تلك القطاعات الحاضنة لثروة الثقافة الرمزية إلى تلك العاملة في تصنيع الثقافة المادية، أن يكون لها الأثر الواضح والمؤثّر في تحفيز الابتكار وصنع القِيم ورسم الثيمات الحضارية في الراهن العربي. وهو ما بوّأ الإمارات منزلة متقدمة وحولها إلى مصدر إلهام لشعوب تتطلع إلى خوض نهضة حضارية. نرى هذا في الجهات الساعية إلى كسب الخبرة الإماراتية، وفي جحافل الأفراد الساعين إلى تحسين ظروف عيشهم والترقي في دراساتهم وأعمالهم، فأن يوفّق بلد في النجاح في ظل مناخ عالمي صعب وغير ملائم، يعني أن هناك نهجاً يقتضي الدراسة والمتابعة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©