الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الشعر والفلسفة.. الصوت والصمت!

الشعر والفلسفة.. الصوت والصمت!
2 فبراير 2023 01:21

الفاهم محمد

نعلم جميعاً القسمة الحادة التي خلفها أفلاطون حينما أكد على وجود تعارض بين الفلسفة والشعر، وبالتالي طالب في كتابه «الجمهورية» بطرد الشعراء خارج المدينة، بدعوى أنهم يفتتنون بالصور وبالظاهر، ويتيهون عن الحقيقة والكينونة. لقد وضع أفلاطون ثقته في الرياضيات بدل الشعر. هكذا بنيت الميتافيزيقا منذ تأسيسها مع فيلسوف عالم المُثل باعتبارها إحاطة شاملة بالوجود، وامتلاكاً مطلقاً لناصية القول في مسألة الكينونة. وكما يقول كريستيان دوميه في كتابه «جنوح الفلاسفة الشعري»، إن الفلسفة تعتقد أنها: «قادرة على كل شيء ما عدا شيء واحد ألا وهو أن تلتزم الصمـت»!
ويمكننا أن نقول إذن، وبكل تأكيد، إن هذا الصمت نفسه هو الموضوع الذي يسكن كبار الشعراء. فما تعجز عنه الفلسفة يوجد زاخراً في الشعر. فما الذي يقوله إذن هذا الصمت الضاج بالكلمات؟ أو بطريقة أخرى، ما هو هذا القول الذي يستعصي على الدخول في لغة الميتافيزيقا؟

المُحال الفلسفي
تطمح الفلسفة على الأقل في صيغتها التقليدية، أي الفلسفة كمشاريع ميتافيزيقية، إلى إنجاز كل شيء، وإلى قول كل ما يمكن قوله حول الوجود. والحال أن الأدب بشكل عام، والشعر بالخصوص، يقوم بالأساس على إبطال هكذا دعوى، مؤكداً على أن ثمة شيئاً سيظل ربما دوماً غير قابل للتمثل العقلي، ومن ثم غير قابل لأن تحيط به اللغة إحاطة كلية. إن النسق المغلق للحقيقة الميتافيزيقية يتعارض مع النسق المفتوح للكتابة الإبداعية. فالشعر يسعى إلى قول شيء استعص حمله إلى الفكر، ولذلك فهو يقول هذا الشيء دون أن يتمكن فعلاً من الإفصاح عنه، وهذا هو ما يسميه جاك ديريدا «المحال الفلسفي الخاص بالشعر». فما هو هذا المحال الذي نريد أن نقوله دون أن ننتهي منه أبداً؟
يؤكد كريستيان دوميه دائماً أن ما تريد أن تقوله القصيدة هو الانفصال عن عالم مفقود، استعادة المعنى الضائع، العثور على لغة البدء، لغة البراءة الأصلية. ولهذا السبب يعمل الشاعر على إنقاذ اللغة من الابتذال اليومي، عبر إعادة الحياة إليها، واستعادة الطابع «المقدس» والسري الذي يخلصها من الاستعمالات الشائعة. فالشعر هو أولاً وقبل كل شيء اشتغال على اللغة. ولذلك فنحن نتعرف على الشاعر في أسلوبه واستعاراته وانزياحاته. ولكن إذا كان النقد الأدبي يعتني باللغة الشعرية من ناحية التقطيع العروضي، والإمكانات الصوتية، والصور البلاغية، فإن الفلسفة تسعى لإثارة السؤال حول معنى اللغة كنداء للوجود كما قال هيدغر.
صحيح أن الفلسفة فكرت أحياناً في «سقطة الوجود» هذه، وخصوصاً في الفلسفة المعاصرة: نيتشه، هيدغر، سارتر... ولكنها فعلت ذلك بعد الضربات التي وجهت للميتافيزيقا منساقة تحت تأثير التيار الجارف للغة الشفيفة، التي صورت بها الأعمال الأدبية والشعرية هولدرلين، تراكل، بول تسيلان، رامبو... مأساة الوجود البشري!

الشعر والأفق
لقد ترسخت إلى حد الآن في الفلسفة الكلاسيكية، طريقتان في تمثل الحقيقة وتصور الوجود. فإما أن نقول إن الحقيقة ممنوعة عن الإنسان من حيث المبدأ، أي أنه مهما فعل لن يستطيع أن يكتنِه الطبيعة الداخلية للظواهر، وأن يصل إلى حافة الوجود. وهذه طبعاً هي المدرسة الكانطية، التي رأت أن الحقيقة النهائية، توجد خارج نطاق الذهن البشري.
وعلى النقيض من ذلك ترى المدرسة الهيجلية أن الحقيقي، لابد أن يتجلى يوماً ما في التاريخ، بحيث تفض الحقيقة نفسها في الآتي من أحداث الزمان.
وفي الفلسفة المعاصرة، وبالضبط مع هيدغر، ستتم إضافة طريق ثالث، إنه الأفق. فالإنسان يسلك دروباً طويلة ومتشعبة تحمله إلى أفق معين، ولكن هذا الأفق بدوره ينفتح على أفق آخر، وهكذا دواليك حالنا مع الحقيقة. إن اللغة التي تمكن الإنسان من معانقة هذه الآفاق هي الشعر. 
لا يهتم هيدغر بالقصيدة كموضوع للتحليل النصي، أي للتناول العلمي مثلما تفعل مدارس النقد الأدبي. كما لا يربط بين الشعر وحساسية الشاعر وكفاءته البلاغية. بل إن الشعر في نظره هو مجال لكشف الحقيقة الأصلية للوجود، تلكم الحقيقة التي تناستها الميتافيزيقا، وشعراؤه المفضلون في هذا السياق هم هولدرلين وتراكل وريلكه وستيفان جورج. لقد غيّر هؤلاء التناول الشعري للغة، عندما جعلوها لا تدور حول البواطن النفسية الذاتية، بل إن الشعر أصبح معهم هو الأفق الذي يمكن للوجود أن ينكشف من خلاله. وأكثر من ذلك يوسع هيدغر معنى الشعر، كي لا يقتصر حصراً على القصائد. ففي نظره الشعر هو جوهر كل عمل فني كيفما كان جنسه. وهكذا يمكننا أن نميز بين المعنى الخاص للشعر، باعتباره اشتغالاً على اللغة، وبين المعنى العام للشعري الذي يصبح أساس جميع الفنون. 
ويؤكد هيدغر كذلك أن إقامة الإنسان في العالم، كانت مع الفلاسفة قبل السقراطيين شعرية بامتياز، بينما اليوم في المجتمعات الحديثة، وتحت الهيمنة التي تمارسها التقنية، تراجع هذا الوجود الشعري للإنسان في الحياة، لكي ينحصر الشعر في الأدب عموماً وفي القصائد بالخصوص. ولكن، كيفما كان الحال ما هي هذه الحقيقة التي يفصح عنها الشعر، وتعجز عن الإحاطة بها الميتافيزيقا؟

الصمت والعدم 
إن ما يشرئب إليه الشعر، عبر تأمله في هذه الآفاق الحارقة للوجود، هو الصمت، أو بلغة فلسفية العدم، فالشاعر يواجه صمت الوجود باللغة القلقة للاستعارات والمجازات الشعرية. إن ما يتكلم في القصيدة ليس الشاعر تحديداً، وإنما الوجود الصامت الذي يسعى على رغم صمته إلى الانكشاف، يقول هيدغر: «عندما نقول إن الكلام متكلم فهذا يعني أيضاً، وعلى الأخص، أن الكلام يتكلم. إذن ما يتكلم هو الكلام وليس الإنسان»! إن هذه التجربة التي يعيشها الشاعر في شعوره بالعدم والقلق الذي يعتريه، تتجاوز لغة العقل والمنطق اللذين تعتد بهما الفلسفة. فالشاعر الأصيل هو الذي يجيد الإصغاء لهذه اللغة، التي تتجاوز حدود ما يمكن أن تعبر عنه الفلسفة بلغة اللوغوس. وهكذا لم يعد الشعر مع هيدغر مجالاً للتيه كما هو الأمر مع أفلاطون، فليس الشعر هو اللاحقيقة، بل على العكس من ذلك تماماً، إنه المجال الذي تعثر فيه اللغة على أقصى تجلٍّ للإفصاح عن الوجود. وعلى رغم أن الشعر يعمل جاهداً على قول ما يصعب، وربما يستحيل قوله، ولكنّ هذه المجابهة العنيدة للصمت هي ما يصنع عظمته!
وكما نعلم جميعاً فإن الخطاب الفلسفي خطاب يتطلب الدقة والصرامة العقلية في الاستدلال والمحاججة، بينما لغة الشعر تكون أكثر تحرراً من إلزامات المنطق، لغة لعبية مراوغة تستطيع أن تجعل ما هو بعيد قريباً، وما هو قريب بعيداً. ما هو ممكن مستحيلاً، وما نعتقد أنه معقول غير معقول! إن مثل هذه اللغة التي كانت تجيد الإصغاء لأسرار الوجود ولمأساة الإنسان، وتستنطق صمت الكون، طواها النسيان حسب هيدغر. فعصرنا ليس عصر الشعراء الذين على شفاههم «تزهر اللغة» بحسب تعبيره.
صحيح أننا نعرف انتشاراً هائلاً لجوقة الشعراء، غير أن أغلبيتهم يدخلون ضمن من وصفهم جون كوهين في «بنية اللغة الشعرية» بأنهم: «شعراء يوم الأحد». وعليه إذا كان بإمكاننا أن نستنهض مثل هذه اللغة الأصيلة، فذلك سيكون حتماً ضد حالة الاستسهال والابتذال اللغوي التي تعرفها بعض الأجيال الصاعدة! فنحن سنعثر على ذواتنا ونلتقط حقيقة وجودنا، من خلال الصمت الناطق الذي يذكرنا به الشعر، وليس من خلال الثرثرة العارمة التي نعيشها حالياً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©