الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جاك ماريتان.. فيلسوف الروح

جاك ماريتان.. فيلسوف الروح
16 مارس 2023 02:34

إميل أمين

قبل خمسة عقود، وتحديداً في أبريل من عام 1973، رحل عن عالمنا أحد أهم الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، الذين شاركوا في صياغة «إعلان حقوق الإنسان»، وقد قاد مع شريكة حياته، رحلة طويلة، هدفت إلى إحياء القيم الروحية في مواجهة طغيان المادة، عبر القارة الأوروبية.
إنه جاك ماريتان، المولود في باريس عام 1882، لأب محامٍ، ومن عائلة بروتستانتية، وكان مثيراً ومناهضاً للعقل المتحجّر. وجاءت البدايات عبر مدرسة «ليسيه هنري الرابع»، إحدى مدارس الصفوة الفرنسية، ليلتحق بعدها بجامعة السوربون العريقة لدراسة العلوم الطبيعية من كيمياء وأحياء وفيزياء.
وفي تلك الأوقات، كانت الأيام تدبر له لقاء مع «رايسا أومانكوف»، الشابة اليهودية الروسية المهاجرة، وقد جذبه إليها الشِّعر الصوفي الذي أجادته.
وخلال دراسته شعر ماريتان بجفاف روحي كبير، هو ورايسا، إذ قصرت تلك العلوم الطبيعية عن تقديم ما يكفي من قناعات وبراهين عن سر الوجود.
وبطبيعة الحال، لم ينكر ماريتان الأهمية الكبرى للتجارب العلمية، وما قادت إليه من اكتشافات للقوانين الفيزيائية والرياضية التي تنتظم الكون، وكيف انعكس ذلك على أوروبا المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً بشكل مغاير لما عرفته البشرية طوال آلاف السنين. وفيما أقر بأن الميكانيزمات الحديثة وفرت للإنسان المعاصر قسطاً وافراً من الرفاهية، ورفعت عنه عبء المجهود العضلي الشاق، إلا أن حيرته ازدادت، وتساؤلاته تسارعت عن أصل الحياة ونشأة الكون.

أسئلة حائرة
وقف ماريتان عاجزاً عن إيجاد إجابات لأسئلة حائرة تصل الوجودي بالميتافيزيقي، الأمر الذي عجز العلم عن الجواب عنه. وكان ماريتان ورايسا في حال مفجع من انعدام إجابات شافية وافية، عما يدور في ذهنيهما، قبل أن تأتي الصدف بفرصة غيّرت مسارهما القلق، حيث قدم تشارلز بيجوي، صديق ماريتان، نصيحة لهما بمتابعة محاضرات الفيلسوف الفرنسي، «هنري بيرغسون»، التي كان يلقيها في «الكوليج دو فرانس».
وكان بيرغسون أحد أهم فلاسفة فرنسا وأوروبا في النصف الأول من القرن العشرين (1859-1941)، وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1927، وعرف عنه لونٌ من التفكير وأسلوب من التعبير، تركا بصماتهما على كثير من النتاج الفكري الفرنسي والأوروبي في مرحلة الخمسينيات، وتميز بانتقاده القوي للقيم المادية المطلقة، وتأكيده على إيمانه غير المتزعزع بالروح وعالمها.
وهكذا زرعت أفكار بيرغسون حالة من «الإحساس بالمطلق» عند ماريتان، الأمر الذي فك دوامات يأسه هو ورايسا، وقد صارا زوجين، ثم ما لبثا أن تحولا معاً إلى المذهب الكاثوليكي. وخلال مرحلة الانتقال الفكري هذه، أصيبت رايسا بمرض شديد، ووجدا في هذه المحنة صديقاً من الرهبنة الدومنيكانية، يدعى «همبرت كليريساك»، وقد لعب دور المرشد الروحي لهما.
وخلال متابعته لحالة رايسا الصحية، قدم لها كتابات توماس الأكويني، أحد أعظم اللاهوتيين والفلاسفة الأوروبيين. وقرأت رايسا الكتب بحماس شديد، وحضت زوجها بدوره على فحص كتابات الأكويني، التي وجد فيها ماريتان عدداً من الأفكار والرؤى التي صدقها وآمن بها طوال الوقت، وحتى قبل اطلاعه على أي من هذه الكتابات.

دور إنساني
وحين قامت الحرب العالمية الثانية وهزمت فرنسا، لجأ ماريتان إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأقام فيها طوال سنوات الحرب، قبل أن يعود لبلاده ثانية بعد انتصار «الحلفاء»، حيث عيّنه شارل ديغول سفيراً لفرنسا لدى الفاتيكان. وفي نيويورك تجلى الدور الإنساني لماريتان، فعمد إلى أنشطة إنقاذ المضطهدين والمطاردين من قبل النظام النازي، فسعى إلى جلب أكاديميين مهددين في أوروبا إلى الولايات المتحدة، كان الكثير منهم من اليهود الملاحقين من قبل هتلر وأجهزته.
كما عُرف ماريتان بدوره الفعال في مواجهة دول «المحور»، واعتبر حضوره في أميركا كمركز للمقاومة الديغولية، من خلال محاربة أفكار اليمين المتطرف.
هل انقلب ماريتان على أفكار بيرغسون؟
الحال أن ماريتان على رغم كونه مديناً فكرياً لبيرغسون، بفتح فلسفة الروح أمامه، إلا أنه لاحقاً انقلب عليه أيضاً فكرياً.
فقد حارب ماريتان مذهب بيرغسون، إذ وجده في تعارض تام مع مذهب توماس الأكويني، ولأنه أيضاً رأى في بيرغسون ملهماً لحركة التجديد الديني في فرنسا آنذاك، وهي حركة أدانها بابا روما. كما أخذ ماريتان على بيرغسون أنه وقع في الفخ الذي نصبه له الماديون، إذ خلط بين العقل المشوه والمصاب بالعمى عرضاً، وبين العقل الثمين جداً، الجميل جداً، الذي وهبه الخالق للإنسان.
وقطع ماريتان بأن البيرغسونية خلطت بصورة منتظمة بين الخيال والفكر، ونتج عن هذا أنه، وفي المقام الأول، حين يقوم بيرغسون بنقد العقل، فهو يتوجه إلى الخيال مأخوذاً على أنه العقل.

ماريتان وأوروبا
هل أوروبا مدينة لماريتان حتى اليوم؟
أغلب الظن أن الأمر كذلك، إذ يعتبر أحد أهم الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، الذين انتشلوا أوروبا من فكرة «قداسة العلم»، تلك الفكرة التي هيمنت طويلاً على جامعة السوربون، وقطاع من الجماعة العلمية فيها. وهناك أمر آخر في حياة ماريتان ورايسا، ترك بصمة واضحة على غالبية مفكري وأدباء فرنسا وكذلك فلاسفتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما يتوقف عنده الكاتب الفرنسي، «جان لوك باري»، في مؤلفه المعنون «باحثان من السماء»! ويذهب باري إلى أن «ماريتان ورايسا»، كانا زوجين رائعين، ومثالين للمثقفين الحقيقيين النخبويين الفاعلين في مجتمعهما، ولاسيما في الفترة ما بين الحربين العالميتين، وتحديداً في الأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية خاصة والأوربية عامة، إذ شكل منزلهما أكبر صالون للنقاشات الفلسفية والأدبية، في فترة مهمة من تاريخ فرنسا. وكان منزلهما بمثابة الملاذ والمأوى للمثقفين الحائرين المتسائلين القلقين، لاسيما في ذلك التوقيت الذي عرفت فيه أوروبا نزعات وصيحات مادية مثيرة للخوف الوجداني، ولاسيما بعد أن فقد الأوروبيون الأمان من جراء أهوال الحرب العالمية الثانية. واعتبر منزل ماريتان ورايسا، قبل أن تغادر الحياة عام 1960، مرفأ يجد فيه المرهقون ذهنياً العون النفسي والإرشاد الروحي بعد أن ضاعت بوصلة الحياة لديهم.
وقد تعرض ماريتان بعد العودة من الولايات المتحدة ونهاية الحرب العالمية الثانية لتجربة صعبة، ولكنه سرعان ما استفاق من تبعاتها، فقد بدا وكأنه سقط في فخ اليمين الفرنسي المتطرف، ما عرضه للتوبيخ والتقريع، وخاصة من قبل السلطات الروحية في الفاتيكان، التي اعتبرت الأمر بعيداً عن روح التسامح وفلسفة التصالح، وعن الإيمان الواعي الباذل للنفس، والرجاء الثابت في العالم الآخر.

النهج المستنير
ولم يطل المقام بماريتان في ذلك المربع اليميني الفرنسي، إذ سارع إلى مغادرة ضفافه، وعاد من جديد إلى النهج المعتدل المستنير، وقدر له أن يشارك فيلسوف الشخصانية الفرنسي مونييه تأسيس مجلة «أسْبري»، أي الروح، التي خدمت تياراً فكرياً فلسفياً فرنسياً وفّق بين مبادئ الدين من جهة، والتوجهات العقلانية الفلسفية لعصور التنوير من جهة أخرى.ولعل أجمل ما في تجربة ماريتان الفكرية، أنه قدم رؤية لعصره ومعاصريه، رؤية تصلح كذلك لأيامنا، تفيد بأن الدين يمكن أن ينفتح ويتوافق مع العقل الفلسفي المستنير، إذ ليست هناك عداوة بين الدين والحرية أو النزعة الإنسانية. وبهذا استطاع ماريتان أن يخلق حائط صد أمام موجة الوضعية الإلحادية الصناعية في الغرب، تلك التي لا تؤمن بالقيم الروحية والإنسانية. وآمن بأن هناك شيئاً ما ينقص الإنسان، ولاسيما أن القلب البشري أشبه ما يكون بالمثلث، فيما الأرض كروية، وعليه حال وضع الأرض بأكملها في قلب الإنسان، ستظل هناك فراغات لا تملؤها المادة، ومن هنا تبدو الحاجة إلى الإشباع الروحي وليس الإشباع المادي.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©