الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«الآه هلّه».. وجدان شعبي

«الآه هلّه».. وجدان شعبي
18 يوليو 2020 00:15

نوف الموسى

«همهمات».. شيء يشبه «الدندنة» الخفيّة في الروح.. يهمس بها المؤدي مع نفسه، ومن هنا تبدأ لحظة الانتباه الأولى لحالة الاتصال البديعة بينه وبين روحه، يُنزل رأسه بتمايل خفيف للأسفل، كمن ينتظر أحداً ما يهمس في أذنه بجملة لحنية، أو تجليات لمقام يتجسد بعفوية، إلا أن الصوت عبره يخرج من بين الأفواه بتتابع منظم، من منطقة «الصدر»، وجّل القوة فيه يكمن في «النَفَسَ»، ومتى ما تولد اللحن يبدأ بعدها المؤدي بـ «تقطيع» كل كلمة في القصيد أو النشيد، لينفخ فيه «الإضافة» من روح الهارموني، من خلال صفاء اللحن المتشكل: «يالله بذعذاع النسيم ايذنَّ.. ويبلغ العاشق هوى مطلوبه، لأن العشق يدع الثجيل ينّا.. لا يهتنى بقوته ولا مشروبه».

كل الحمل يُلقى على كاهل الصوت، لا توجد آلة إيقاعية أو موسيقية لها دور هنا، ويوازي صوت المؤدين، التوافق الحركي، وتُشكل مجموعتان متباعدتان من المؤديين على شكل دائرة، واللافت فيه أن التنافس بين المجموعتين لاستمرار الأداء مرهون بالقدرة على ابتداع المقام والجمل اللحنية، التي قد تجعل المؤدين يجلسون حتى الفجر أحياناً، وهم في غمرة الطرب ونشوة الـ «الآه هلّه»، وهو الفن الشعبي المتفرد، الذي تختص فيه دولة الإمارات فقط، ولغرابة نشأة فن «الآه هلّه»، وتعدد أسبابه ومروياته، انطلق سؤال «الاتحاد»، نحو الباحثين لمكاشفة «المعنى» من حضور هذا الفن، والبعد التاريخي للحكايا حوله، ومنه ما تم رصده حول أسباب إطلاق كبار السن من أهالي الإمارات على فن «الآه هلّه» أنه «بدعة الجن»، وهل لمرض «الطاعون» فعلاً دور في استمرار «الآه هلّه»، ومن هو «رويمه» من أهالي منطقة الخان في إمارة الشارقة، صاحب «المحاميل»، الذي يُعتقد بأنه أول من «دندن» بـ «الآه هلّه»؟

الرحلة الأولى
الرحلة الأولى كانت لإمارة أم القيوين، جلستُ بالقرب من سالم حسن جمعة آل علي، رئيس جمعية التراث الشعبي في الإمارة، وأخيه جمعة حسن جمعة آل علي، وأراقب فعلهما أثناء تأدية فن «الآه هلّه» - من المجموعة المختصة من كبار السن، الذين لا يزالون يمارسون هذا الفن - كوننا نحتاج كأجيال شابة إلى المعايشة لإدراك وفهم ما يعنيه الفن بأبعاده المختلفة، فإنه طوال فترة الأداء كان السكون يعم المكان، وبين مقام ومقام استمر جمعة حسن جمعة آل علي، يحن لرفقائه من رحلوا وتوفاهم الله، ويتمنى حضورهم حوله لـ «يشلوا» معه، أي يدعموه في الترديد، فـ «الآه هلّه» قائم على صوت المجموعة، يذكر سالم حسن جمعة آل علي، أن كل شيء ينطلق بعد العشاء في مجالسهم.
 واستمر جمعة حسن وأخوه سالم حسن في ترديد المقامات، ولا يمكن للمستمع في أغلب الأحيان أن يفهم الكلمات، إلا إذا كتبت له، لأن اللحن هو المتسيد على المشهدية الأدائية ككل، وهو ما يعطيه الإحساس الرفيع، وعمق التأثير، لأن «الآه هلّه» فن للمتعة الحسية والشعورية بامتياز.

حراك اجتماعي
الذهاب إلى إمارة رأس الخيمة، واللقاء بالباحث سعيد خلفان أبوميان، كان مهماً على عدة مستويات، أولها أن إمارة رأس الخيمة، وتحديداً في منطقة الجزيرة الحمراء، وبالأخص أهالي الزعاب، امتازوا بأداء فن «الآه هلّه»، ولهم دور في انتشاره، وذلك يعود لتنقلاتهم بين إمارات الدولة، بحسب الباحث سعيد خلفان، وثانيها أن أبوميان قام بتوثيق أبرز المرويات والحكايات عن الرواة حول نشأة «الآه هلّه»، التي لم يتم بشكل أساسي ترجيح أي منها، لعدم توفر الأدلة والبراهين التي تثبت رواية بعينها، وجماليتها أنها تحمل مضامين تاريخية، وترصد حراكاً اجتماعياً، وكيفية تفاعل أناس المكان مع المتغيرات من حولهم من جهة، وتبنيهم لحالة الفن الفردية، فالأخير يبرز في رواية «رويمه» تحدث عنها أبوميان، قائلاً: إنه شخص من أهالي منطقة الخان بإمارة الشارقة، وكان يمتلك سفناً للغوص والأسفار، ويقال إنه مات وتم دفنه، إلا أنه بعد 3 أيام، بدؤوا يسمعون صوته في القبر، وقاموا بإخراجه، وتم إطلاق اسم «المرموم» عليه، لأن جسمه أكلته الرِّمَّةُ، ويذكر أنه بعدها عند ذهاب «الغاصة» معه في رحلات السفر، يدخل وقت النوم وهو يظل مستيقظاً ويهمهم بينه وبين نفسه، وانتبهوا له، وبدؤوا يرددون ويأخذون منه، ووقتها تساءلوا من أين جلب هذه الألحان؟ ولأنه لم تكن هناك إجابة شافية، ربطوها بمسألة «الجن» أثناء وجوده في القبر، بأنهم من علموه، وأطلقوا عليها «بدعة الجن».

«الطاعون»
من الروايات اللافتة، ربط ظهور فن «الآه هلّه» بمرض «الطاعون»، ويوضح الباحث سعيد أبوميان، بحسب الرواية، أنه ساد اعتقاد بأن عرضة العيالة والطبول المصاحبة لها، هي السبب في نشوء المرض، مما أدى ذلك إلى منع الطبول عن رأس الخيمة، ومنها تولد ابتداع «الآه هلّه»، إلا أن الرواية الثالثة، والتي حملت بعداً تاريخياً، ارتبطت بمجيء الحملة الوهابية إلى المنطقة في عام 1811 م، بقيادة مطلق المطيري، موضحاً أبوميان أنه على لسان الرواة وثق قولهم، أن وقتها منعت استخدام الطبول المصاحبة للاستعراضات والأهازيج الشعبية، نظراً لمعتقد حرمتها دينياً، مبيناً أن هذا المنع لم يتمكن من إحجام العقول عن التفكير في ابتداع ما يعوض عبوراً جمالياً، لما يود أهالي المكان من التعبير عنه، ليظهر فن «الآه هلّه».

التاريخ والتراث
بالمقابل، لم يرجح الباحث الدكتور سعيد مبارك الحداد، الباحث في التاريخ والتراث ومدير معهد الشارقة للتراث - فرع كلباء، في حديثه، رواية الحملة الوهابية، كونه يرى أن فن «الآه هلّه»، سبق حضورهم بفترة زمنية أقدم، متحدثاً الحداد عن رواية «رويمة»، والتي توحي لنا بأن فن «الآه هلّه»، نشأ بمعطيات بحرية، وتحديداً الدوائر التي يشكلها المؤدون، القريبة من بعضها البعض، والصفوف المتقاربة، والتي تعتمد على فضاء الأداء، وهي السفن، وأضاف الحداد ملاحظته كباحث إلى حركة النزول والطلوع للمؤدين الممتدة من حركة أمواج البحر والسفينة، إلى جانب ارتداء المؤدي لـ «الغتره» فقط دون «العقال»، والتي توحي بأنه مكان لتأدية الفن في حالة عمل وانشغال وانهماك، وأشار الحداد أن الحملة الوهابية خدمت فن «الآه هلّه»، من خلال توقيف الطبول، وأعطت مساحة دون قصد، لتركيز المؤدين الشعبيين على إعطاء حجم جديد عبر القصائد، ليعبروا من خلالها عن آلامهم ومعاناتهم.

مضامين القصائد

تحدث حسن علي لاغر، رئيس فرقة جمعية دبي للفنون الشعبية، عن مضامين القصائد في فن الـ «الآه هلّه»، ومنها أن يمتدح الشخص صديقه، أو يعاتبه، وهناك قضايا مهمة تطرح من بينها الاغتراب، أثناء السفر والبحث عن الرزق، مبيناً لاغر قيمة وقوة فن «الآه هلّه» في أنه عبارة عن حناجر فقط، ومع ذلك تستشعر أنها موسيقى كاملة، ذاكراً تفصيلة مهمة، أنه في إحدى المشاركات الخارجية لدولة الإمارات، وتحديداً في شنغهاي، توقف وقتها الأجانب يستمعون إليهم، بينما ينشدون الـ «الآه هلّه»، وبدا عليهم الاستغراب والاستطراب، معرفين هذا الفن في كتاباتهم وملاحظاتهم بأنه ضمن الفنون الكلاسيكية، وهو ما يجعلنا نطرح على أنفسنا في الإمارات، حول أهمية الفن ودورنا في الحفاظ عليه، وإعادة اكتشافه، وقراءة مضامينه الجمالية والإنسانية والفنية.

احتراف
من الضروري إعادة اكتشاف مسألة تدريب جمعيات الفنون الشعبية لفن «الآه هلّه»، خاصة بعد النجاح الذي حققته الفرقة القومية، بعد تأسيسها في عام 1985، والتابعة لوزارة الإعلام والثقافة وقتها، فأغلب الشباب احترفوا الفنون عبر الجمعيات الشعبية على مستوى دولة الإمارات، من بينهم عبيد علي عبدالله، من يشغل منصب رئيس مجلس إدارة جمعية دبي للفنون الشعبية، ويدير الفرقة القومية، بعد أن حققت الكثير من المنجزات في وقت سابق، وبالأخص في مجال التدريب بإدارة وإشراف الباحث والموسيقي عيد الفرج، والسؤال المطروح مجدداً حول سبب توقفها الحالي، عن القيام بدورها الاستثنائي، يطلعنا عبيد علي أنها متوقفة قرابة الـ 4 سنوات، إلا من بعض الأنشطة المتقطعة، وأن هناك اشتغالاً في الوقت الحالي من قبل وزارة الثقافة وتنمية المعرفة، لإعداد تنظيم جديد لآليات عمل الفرقة، ويضيف عبيد علي أن هناك تغييراً في اسم الفرقة من القومية إلى الفرقة الوطنية.

إبراهيم جمعة: دلالة على الشفافية
ردة الفعل الأولى للفنان والملحن إبراهيم جمعة، عند سؤاله عن فن «الآه هلّه»، هو «الله»، دلالة على شفافية أثر هذا الفن على الموسيقيين، سارداً أن علاقته مع «الآه هلّه» تتجلى من خلال معايشة في بيئة تكوينه الأولى، مند أن كان صغيراً بالقرب من الساحل، قائلاً: «الغريب في هذا الأداء الفني الساحر، هو الهارموني من خلال صوتين، وعفوية الإلقاء المبنية على تناغم، فالقوة تتولد من منطقة الصدر، تماماً كالنهمة»، وفي عملية إدخال الفنون الشعبية من مثل فن «الآه هلّه»، إلى الأوركسترا والتشكيلات الموسيقية الأخرى.
وأوضح الفنان إبراهيم جمعة، أنه علينا الوعي بمفهوم المعايشة الصوتية هنا، الذي من خلاله تم توريث لحن جماعي شعبي عبر أجيال متتالية، والتدريب عليه يعتمد على دقة ليس في اللحن فقط، وإنما في نطق الكلمة المسموعة.

سعيد الحداد: فن «التوافق الحركي» 
فن «الآه هلّه»، من الفنون ذات الطرق اللحنية الصعبة، لذلك يرى الباحث د. سعيد مبارك الحداد، أن عملية البحث في الفنون الشعبية تتطلب التجربة والتحليل والتفصيل، وجميعها تصب كما أوضح الحداد ضمن حالة فهم «التعايش»، خاصة أن «الآه هلّه» قائم على «التوافق الحركي»، ويتبع العيالة، في كونهما مستوحى من المدرسة العسكرية، فمسألة وضع اليد على الصدر تعطي دلالة وهي بمثابة الطعن الجانبي، وحتى اللفات من اليمين واليسار تمثل حالة الترقب التي نجدها عند الجندي، ويرجع الحداد الموضوع إلى أنه علينا أن لا نستبعد مسألة الامتداد والعامل التاريخي، فأغلب الحروب والغزوات في المنطقة كانت عبر المواجهات البحرية، وبرجوعنا إلى حتى ما قبل الإسلام، أغلب المكتشفات الأثرية تتضمن أسلحة وسيوفاً ورماحاً، وصممت لتشكل حالة دفاع مستمرة عن النفس والعرض والأرض.
وأوضح الحداد، أن الحديث عن تطوير فن «الآه هلّه»، يجب أن يكون مبنياً على فهم لأصول الفن أساساً، التي يجب أن لا يتم التخلي عنها، وذلك بإعطاء الصوت حجمه ومساحة، واستغفال هذه النقطة الجوهرية قد يؤدي بنا إلى التسبب بجرح التراث، كون الفنون الشعبية قائمة على قيم، من بينها الحب والعشق والمعاناة والتعايش والانسجام، وهو ما يعطي للفنان الشعبي حضوراً قوياً، وساهم في إثراء الكثير من التجارب الموسيقية المعاصرة، التي حافظت على إضفاء فن «الآه هلّه» كحالة جمالية، تنقل موروثاً شعبياً إلى مستويات مختلفة من الوعي الثقافي والفكري والموسيقي، من بينها تجربة الفنان والملحن القدير إبراهيم جمعة.

عبدالله صالح: حضر على شكل همهمات
المسرحي والكاتب الفنان عبدالله صالح، أوضح أن فن «الآه هلّه» حضر على شكل همهمات، تم إدخالها عبر مجموعة من المؤثرات الصوتية، ووظفت كنوع من لسان حال الشخصيات، باعتبارها آهات تترجم للحظات انكسار وألم، وفراق وفقد، إضافة إلى كونها تشكل نقلات للحالات وتغيرها على مستوى الحدث والشخصيات، تم استخدمها في الموسيقى التلفزيونية المحلية، من مثل مسلسل «ريح الشمال».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©