الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

قصر الحصن.. صرح للعمارة التقليدية

قصر الحصن.. صرح للعمارة التقليدية
21 أغسطس 2020 00:25

نسرين درزي (أبوظبي)

قصر الحصن الذي لا يشيخ، ويمثل ببنيانه الطيني الأبيض القلب النابض لأبوظبي، والشاهد الحي على تاريخها، هو أعرق صرح فيها، وتعود بدايات تشييده إلى ما يزيد على 250 عاماً، وقد وُضعت لبنته الأولى حول أقدم بناء حجري مستمر في المدينة، يخبر الشغوفين بفنون العمارة التقليدية، كيف تصنع الحضارات، وكيف تُروى الإنجازات.

أحجار مرجانية
وقصر الحصن بجمالياته الهندسية البسيطة الكاشفة عن صياغته بالفطرة، كجوهرة مشعة من الخارج كما من الداخل، لم يُقصد التركيز في زمن تشييده على الإبهار المشهدي، والتفصيل المثير الذي اعتُبر سابقة في ذلك العصر، والمواد المستعملة لبناء قصر الحصن استُخرجت بحسب بيئته من البحر، وكانت بمعظمها من الأحجار المرجانية، فجاءت اللوحة بخطوطها المبهرة إبداعاً من الأعماق، وفي حينه لم يكن من السهل اعتماد طلاء مناسب للظروف المناخية، وقد وقع الاختيار على خليط من الكلس والرمال والأصداف المطحونة. أما الأرضيات التي لا يزال جزء كبير منها على حاله، فمغطاة بخشب أشجار القرم، وكذلك الأسقف المصممة بأسلوب لافت لدقة البناء التقليدي، وكلها أدوات جمالية تحولت مع الوقت إلى معجم أساسي لفنون العمارة الأصيلة لصرح أسطورة، أريد له أن يكون برج مراقبة في أواخر القرن الثامن عشر، لتتبع الطرق التجارية الساحلية، وحماية المجتمعات المتنامية على الجزيرة.  والقصر بهيئته الأثرية وقناطره والممرات والمشهدية البكر الساكنة فيه، يشكل وجهة أساسية بين أهم المواقع على قائمة المعالم المعمارية وأقدمها في الدولة، ويجسد -بحسب خبراء فنون العمارة الدوليين ممن تعاقبوا على زيارته- حقيقة أبوظبي في دلالته الهندسية على مواكبة تطورات العصر، التي اتبعتها الإمارة للتأكيد على ارتباطها بالجذور. والجولة في أرجائه وبين غرفه المتداخلة وقاعاته صعوداً ونزولاً، تختصر معنى السياحة الثقافية لاستكشاف تفاصيل المجتمع المحلي وزيارة البدايات، وتمنح المحتفين به مع كل خطوة يخطونها، متوغلين في أرجائه، مفهوماً مغايراً، داعية إياهم لإمعان النظر في أرضياته وأسقفه وجدرانه. 

عناصر زخرفية
وللإضاءة على خطوطه الهندسية، تحدثت لـ«الاتحاد»، المستشارة في فنون العمارة الإسلامية الدكتورة ريم المتولي، صاحبة كتاب «قصر الحصن - مسح هندسي» الذي صدر في عام 1995، معتبرة إياه أيقونة تجسد حقبة زمنية للطراز المعماري في أبوظبي. واعتبرت أن أهمية «الحصن» تأتي لكونه يمثل أول وأقدم شاهد عمراني في أبوظبي، وقد أنشئ بداية كبرج لمراقبة الساحل في تسعينيات القرن الـ18 أي خلال فترة حكم الشيخ شخبوط بن ذياب، ثم تحوّل إلى حصن ومسكن لحاكم أبوظبي وأسرته عندما تحول مركز السلطة من ليوا إلى جزيرة أبوظبي. وأوضحت أنه في خمسينيات القرن الماضي خلال فترة حكم الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان تم بناء المرحلة الثانية من «الحصن» الذي وصفه الرائد كلارنس مان بقوله: «إنه حصن كبير ومهيب يقع بين صف من النخيل والجزء الخلفي للمدينة. وهو على الأغلب أكبر وأعلى بناء في أبوظبي، ويتضمن داخل أسواره الحصن القديم الذي كان معلماً للسفن العابرة». 
أما المرحلة الثالثة من تاريخه، فكانت بين عامي 1964 - 1965 حيث تمت إضافة دارين إلى ساحة المبنى الرئيسي لأغراض إدارية. فيما تمثلت المرحلة الرابعة في عملية الترميم التي تمت بين عامي 1979 و1985، وتبعتها عملية ترميم لاحقة ركزت على التصميم الداخلي. وذكرت المتولي أن التفرد الذي يكتنز قصر الحصن يكمن بفعل تشييده من قلعتين: القصر الأكبر، والقلعة القديمة التي تضم مجموعة من المباني داخل «الحصن»، وقد مرت تاريخياً بمراحل عدة من الترميم والتجديد بهدف الحفاظ عليها واستدامتها. ولفتت إلى أن الرموز الهندسية والعناصر الزخرفية الموجودة داخل «الحصن»، تمتّ بصلة قوية إلى التراث المحلي لمنطقة الخليج، ولاسيما الأقواس والتفاصيل المعمارية الخارجية والتقسيمات الداخلية، إذ إن الأولين كانوا يعتمدون في أساسيات البناء على المعطيات العملية المتوافرة في مجتمعاتهم، بحيث لم يأتِ تصميم قصر الحصن من فراغ، وإنما وفقاً لاحتياجاتهم، سواء في البرج الكاشف والغاية منه أو مساحات الغرف وطريقة توزيعها. وأضافت المتولي أنها أثناء تأليف كتاب «قصر الحصن- مسح هندسي» بحثت في موقع البناء ومساحته وإطلالاته ومداخله ومخارجه، وانتقلت إلى التفاصيل الدقيقة التي تتمثل بالمواد المستخدمة فيه، ومراحل بنائه الزمنية مع الترميم، والطرز الهندسية التي اعتمدت فيه، ومكوناته وأقسامه، ثم ذهبت إلى شرح العناصر الزخرفية فيه وسواها من أعمال الزينة التي أضفت عليه طابعاً خاصاً. 

الفيل الأبيض
وعن ظروف التشييد المبهرة لقصر الحصن، تحدث لـ«الاتحاد»، الباحث في التراث المعماري بالمنطقة الدكتور أحمد خوري، لافتاً إلى أن الأجداد كانوا يطلقون عليه تسمية «الفيل الأبيض»، لضخامة بنائه مقارنة بالمساكن الصغيرة المنتشرة في محيطه، والتي لم تكن تتجاوز في ذلك الوقت 9 بيوت من البراجيل عند منطقة السوق القديم لاحقاً، وذكر أن «الحصن» برمزيته الاستثنائية شكل على مر السنين أعظم مثال للدلالة على المنظومة المعمارية الدقيقة لبناء الحصون في مجتمع الإمارات، ولاسيما أن أبناء الوطن ساهموا بسواعدهم في تشييده، ليرتفع كقلعة منيعة بعدما اكتشفوا وجود المياه العذبة في محيطه. وروى خوري بعضاً مما دونه في كتابه قيد الإنجاز «الإمارات عبر العصور»، حول تاريخ قصر الحصن، مشيراً إلى أقدم الذكريات التي التقطت فيه للشيخ زايد الأول في عام 1904، بعدسة مصور ألماني. واعتبر أن السر في بقاء البرج التاريخي على طرازه الأصلي، يكمن في المواد النادرة التي استخدمت في تشييده، وكانت من الحجر البحري، وقال: الحصن الأثري لا يزال ماثلاً في مخيلتي، كما كنت أراه من بعيد من المدرسة الفلاحية، برجاً شامخاً ظل الأعلى والأضخم في المنطقة، حتى بداية انتشار المباني في عام 1965.

قرية صغيرة
وأولى الحكايات عن قصر الحصن، تمتد إلى القرن الثامن عشر، عندما ظهرت المياه العذبة في جزيرة أبوظبي، وكان لابد من تشييد برج لمراقبة المكان، الذي سرعان ما تحول إلى حصن منيع، وأصبح فيما بعد مقراً لإقامة أسرة آل نهيان الحاكمة، كأول مبنى في الإمارة، ويظهر القصر من خلال رواياته المؤرخة، كيف تحول محيطه إلى ما يشبه قرية صغيرة، تنتشر حولها الأكواخ المصنوعة من سعف النخيل، وتكشف قصص الماضي أعمال التوسعة، التي شملت مختلف أجزائه مع خمسينيات القرن التاسع عشر، وكانت المحطة الأبرز في بداية الثمانينيات، حين قرر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، أن يتم إجراء أعمال تجديد شاملة على المبنى، لتحويله من مقر إقامة للأسرة الحاكمة، إلى متحف ومعرض للقطع والمجموعات الأثرية التي ترتبط بتاريخ أبوظبي ومنطقة الخليج، وخلال فترة حكم الشيخ زايد، تم تجديد مبانٍ عدة داخل الحصن، بدءاً من عام 1966، عندما تم تحويل أحد المنازل ليصبح مكتبه الخاص، فيما استعمل في عام 1968 منزلاً آخر لحفظ المعلومات، يعرف اليوم بالمركز الوطني للوثائق والبحوث، ومع استكمال أعمال الترميم في عام 1980، شغل المركز كل الغرف والأقسام التي يتكون منها القصر.

متحف وطني
في عام 2018، تحول القصر إلى متحف وطني، بعد أكثر من 11 عاماً من أعمال الترميم، وهو يبرز كرمز حضاري يعكس تطور أبوظبي من منطقة لاستقرار قبائل بني ياس، التي اعتمدت على صيد السمك واللؤلؤ في القرن الثامن عشر، إلى واحدة من أروع المدن العالمية الحديثة.

الطين الأبيض
من الباب العريض، تدخل فنون العمارة التقليدية مع كل زائر لقصر الحصن الشامخ في قلب العاصمة، ما يؤكد مع تعاقب الأزمنة أن الولاء متشبث فيه، كما الأصالة المتوارثة في وجدان شعبه جيلاً بعد جيل.

مبنيان
يتألّف قصر الحصن من مبنيين أساسيين، هما «الحصن الداخلي»، الذي يعود تاريخه إلى ما يقارب عام 1795، و«القصر الخارجي» الذي شيد خلال الفترة من 1939 - 1945.

6000 سنة
لا تقتصر الروعة المشهدية في قصر الحصن على جمالياته الهندسية، التي تنشرها خيوط الماضي في المقر الأول، وإنما يقدم أيضا منصة تاريخية عريقة، ويضم مجموعة من القطع الأثرية والمواد الأرشيفية، التي يعود تاريخها إلى 6000 سنة قبل الميلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©