الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«لمياء دبي».. ضمير الشعر

«لمياء دبي».. ضمير الشعر
5 سبتمبر 2020 00:20

إبراهيم الملا

«يا عين كفي الدّمع مني ولو يـوم
 صبري على مرّ الدهر لو شقاها

متر الدّمع يا عين وصّلج لغيوم
 غيم ٍعلى غيمٍ يعتّم سناها

عيّيت من شكواج في ساعة النوم
 نومٍ يشوّق ناظري في كراها

لو ييت أخفـــي ما بدا لـج فلا روم
 منّـج تناثر وابل الدمع ماها»

تعبّر الأبيات السابقة للشاعرة «لمياء دبي» - الشيخة صنعا بنت مانع بن راشد آل مكتوم - «رحمها الله»، عن قيمة الخطاب الذاتي في صياغة الحالة الوجدانية البالغة التأثير، والتي أبدعت الشاعرة لمياء دبي في سبك هذا الخطاب الشخصيّ وتوليفه وضخّه بالمشاعر الداخلية، الفائضة بالأسى والناطقة بالحزن، وهي مشاعر ضاغطة وملحّة يفضحها الدمع الذي لا يكفّ عن الجريان، ويظل ثخيناً وحارقاً دون توقّف أو هدنة من هذا المصاب المؤلم الذي تكالبت عليه مرارة الدهر، وقسوة الأيام، مشيرة في قصيدتها إلى أن كثرة هذه الدموع باتت شبيهة بالغيوم المالحة والداكنة التي حجبت بارقة الأمل، وأصابت خاطرها بالعطش والتلف، وأنها تعبت من الذكرى الحاضرة بثقلها وقت النوم، ما يجعلها أسيرة للأرق والسهاد المتواصلين، كما أنها لا تستطيع إخفاء مصابها هذا، لأنه مصابٌ فضّاح وظاهر وبيّن، لا يمكن مداراته، وتبرز قدرة الشاعرة على الوصف الدقيق، النابع من حسّ مرهف ومهارة تصويرية في التقاط اللحظة الفارقة، عندما توكّد ذلك في المقطع الرابع من القصيدة «لو ييت أخفي ما بدا لج فلا روم» /‏ «منّج تناثر وابل الدمع ماها»؛ أي أن رغبتها القوية في كتمان مشاعرها تأتي بنتيجة عكسية، وأكثر وطأةً وإيغالا في الحزن، حيث يتحول الدمع إلى وابل متدفق، كناية عن شدة المعاناة، وغلَبة الأنين وطغيانه.
وفي الأبيات التالية لهذه القصيدة الشهيرة في السجل الشعري المبهر للمياء دبي، نقرأ ما يلي:

«حتى وبَرّ الصــبح نشّيت مغــموم
 أنادي على من كان سبّب بلاها

بِلا من بِلاني بالعمر خطّ مرسوم
 رَسْمٍ مسجّل في الصدر ما محاها

أنا بـــودّه صــابــرٍ في الــدهــر دوم
 دومٍ على دومٍ وروحي فداها

هـذيج أوقـــاتٍ مع الخِلّ محـــتوم
 مرّت كما برقٍ لِمع في سِماها

ترّك لي من الفرقا شومٍ على شوم
 كما رسمٍ وِسَم دمّي في دماها».

وتتابع الأبيات هنا فيما يشبه السرد القصصي لحالة منفردة، ولكن يمكن تعميمها على حالات مشابهة تنقصها القدرة على التعبير عن آلامها المتراكمة، وبذلك تكون الشاعرة، هي اللسان الناطق عن معاناة الآخرين، والترجمان الصادق لما هو متوارٍ في خفايا النفس، وفي بواطنها العصيّة على الكشف.
تقول لنا الشاعرة: إن حلول وقت الصبح، لا يعني انجلاء الهمّ الذي عانته طوال الليل، فها هي تستذكر اسم الخلّ ورسمه، وهو ذات الخلّ الذي كان سبباً للبلاء بعد طول الغياب، وامتداد الفراق، حيث إن اسم «الخلّ» ورسمه لهما خطّ مسجل في الصدر لا يمكن محوه، كما أن له بصمة دامغة في الوجدان لا يمكن إزالتها، وتبوح الشاعرة بقدرتها على الصبر على هذا الودّ المُشتّت والمُقطَع الأوصال، لأن روحها المُخلصة تسمو فوق هذه الظروف الاستثنائية للوداع ومآلاته، ولذلك في روح تواسي صاحبتها وتخفّف من جزعها، رغم أن أوقات اللقيا في زمن سابق، كانت أوقاتاً خاطفة مثل لمعة البرق في السماء، فلا هي استمرت في نشر ضيائها، ولا هي بقت لإمتاع النظر بها، ولذلك كان وقع الفراق مؤلماً ومرهقاً، مخلّفاً وراءه شؤماً مضاعفاً «شومٍ على شوم» وصار أشبه بالميسم الحارق الذي وصل تأثيره إلى مجرى الدم، ولا يمكن بالتالي نسيانه، أو تجاهله، أو طمسه عن القلب والذهن والذاكرة.
صنّفت الشيخة صنعا بنت مانع بن راشد آل مكتوم، التي رحلت في العام 2006، بأنها المرأة الأكثر عطاء وإنسانية، والأكثر اهتماماً بأصحاب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، وحملت ألقاباً عدّة مثل: أمّ اليتامى، وأمل الأرامل، ودواء المرضى، ومخلّصة المساكين، وكفيلة الفقراء.
أما الاسم المُستعار الذي اختارته لتوقّع بها قصائدها، وهو «لمياء دبي»، فكان مترجماً بدقّة لأبعاد شخصيتها وطيب مزاياها وكرم خصالها، واسم «لمياء» المأخوذ من «لمى»، يأتي بمعنى المرأة ذات الصفات الحميدة واللطيفة التي تعامل الأشخاص بأخلاقها الحسنة، وهو اسم يجسّد الشخصية المحبوبة التي لا تضايق أحداً، ولا ينزعج منها المحيطون بها أو القريبون إليها، وهي رمز للسماحة ورفعة الشأن وجمال الروح، ورقّة الحواس ورهافتها، ويمكن القول إن الشاعرة «لمياء دبي» تمثّل ضمير الشعر، والصوت المتدفق من نفس نقيّة ومهمومة بالأسقام العاطفية والتعبير عن لواعجها والعمل على شفائها وتجاوز محنتها.

استفادت «لمياء دبي» من التراث الشعري النبطي اتساع رقعته في المكان وتنوّع أغراضه، ووظفت هذا التراث الغزير كمّا، والعميق محتوىً في قصائدها الوجدانية القريبة جداً من نبض الحواسّ الأنثوية، المصاغة على يديها بأسلوب يجمع بين الرقّة والاستئناس بالمفردة ذات الوقع الشعري المتناغم مع فكرة أو موضوع القصيدة، ومع جوّها العام، ومناخها الخاص، مستعينة في ذلك بثقافتها الأدبية، واطلاعها على كنوز الشعر المحلّي، وكثرة مسجلاتها مع شاعرات عصرها، حيث شاركت معهّن في بناء قاعدة شعرية نسوية ذات حضور لافت، وسمت شاخص، وسط الكمّ الملحوظ من القصائد التي انتشرت في الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، منذ نهايات السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان الشعر النبطي يمتلك امتيازاً خاصاً ومنبراً صاخباً في تلك الفترة الزاهية التي أسست لحضور الشعر الشعبي كفن تعبيري ساطع بالأسماء الكبيرة، والقامات الشعرية العالية.
وتروي لنا السيرة الإبداعية للشاعرة «لمياء دبي» أنها سخّرت إمكاناتها التعبيرية، وقدراتها التوصيفية، لإبراز ثقافة المكان وما تميز به من عادات وتقاليد وقيم أصيلة، وإضفاء هذه الروح على النص الحديث الذي طرق أبواب الإعلام، وانفتح على وسائل التواصل الاجتماعي، لتتسع مساحة حضور الشاعرة الإماراتية المتطلعة إلى عبور آفاق بعيدة من أجل المساهمة في المشهد الثقافي في دولة الإمارات، وكذلك أقنع شعرها العديد من الفنانين الذين تغنوا بجمال كلماتها، وشدوا بعذب مفرداتها، وتناسق أوزان شعرها، وبهاء قوافيها، إضافة لما امتلكته من قيمة ذاتية، ومن رونق اجتماعي وفرادة أخلاقية، أضفت على إبداعها الشعري مظهراً مطرّزاً بالتوقير والإجلال والمحبة الإنسانية العابرة لحدود المكان، وحواجز الزمان.

سيرة حياتية
تذكر السيرة الحياتية للشاعرة «لمياء دبي» أنها نشأت وترعرعت في كنف والدها الشيخ مانع بن راشد آل مكتوم، المولود بمنطقة ديرة بإمارة دبي عام 1880م، وكان لوالدها دور رياديّ في نهضة دبي الثقافية الأولى، وهو ابن الشيخ راشد بن مكتوم، حاكم دبي في الفترة من 1886 إلى 1894، وتلقى دراسته في المدرسة الأحمدية في بداية حياته، وكانت له ميول أدبية منذ صغره، وعُرف بحبه للعلم وقراءته للمجلات العربية التي اشترك بها آنذاك، وفي عام 1938 أسس الشيخ مانع ست مدارس تطورية وأول دائرة للمعارف بدبي، وذلك إثر انهيار تجارة اللؤلؤ، ووضع خريطة لمغاصات اللؤلؤ أطلق عليها «خريطة الخليج لمغاصات اللؤلؤ» في سنة 1939، ونشأت الشيخة صنعا في هذه البيئة، وتأثرت باهتمامات والدها الثقافية والأدبية، وأيضاً الاقتصادية.
والباحث عن التاريخ المبكر للمرأة في الإمارات، يكتشف كنزاً من المعلومات عن نساء هذا المكان، قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، والمهم هنا أن تلك الأمهات العصاميات كن علامات حيوية في قطاع الاقتصاد بشكل خاص، وهنا، تشير الدكتورة رفيعة غباش إلى الانطلاقة الاقتصادية لإمارة دبي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وتذكر سيدات بأسمائهن كنّ فاعلات في ذلك الاقتصاد، وسجّلن ريادة تجارة العطور والقماش مع الهند، من بينهن: الشيخة صنعا بنت مانع آل مكتوم.

عيوني
«لي نامت الدِلهان نومي فلا طاب
عيوني تعّد النجم جبر المحاسيب
عدّيتها مليون بالليل بحساب
 وشاكيتها قبل الوقت عنّي يغيب
ما طيج فرقاهم ولو كنت بَنْشاب
 أبداً ولو حِكْمَتْ عِلِيّه الاقاريب
لي ذعذع البَرّي جداهم بسحّاب
وهلّت رعودِ مدهمات السحاحيب
سهران ليلي كَنّيِه وسط محراب
 وانظر نجوم الياه عسى انهّا تجيب
لين اختفى نجم الصبح عني وغاب
وأصفقت كفي من فراق المحابيب
لوّحت له بيدي بشوقٍ ومصطاب
 وناديت بأعلى الصوت فوق العراجيب
لو يسمعه من كان في اللحد لاجاب
 لا قال لا تبكي، والله لك يجيب».
=====
صنعا بنت مانع آل مكتوم «لمياء دبي»

شخصية قوية
يذكر الباحثون أن الشيخة صنعا كانت من الشخصيات القوية، والتي ساهمت بشكل كبير في دفع مسيرة المرأة نحو العلم والتعلم، بل كانت تخصّص في قصرها يوماً مستقلاً للاحتفاء بنهاية العام الدراسي، وتستضيف كافة مدرسات دبي، وذلك إيماناً منها بدورهن التربوي، وتقديراً لجهودهن في نشر المعرفة والثقافة والتنوير.
صدر للشاعرة ديوان حققه وراجعه الشاعر والباحث راشد شرار، وثّق فيه نتاجها النوعيّ الصادر عن سيّدة فاضلة وجليلة، حازت محبة الجميع، وأغدقت على المهتمين بشعرها الكثير من القصائد المعبّرة عن جماليات اللهجة المحلية، وعن المشاعر النبيلة المتراوحة بين ما هو حميميّ وشخصي، وما هو إنساني واجتماعي، في قالب متوازن، وفي إطار متناغم، فبقت قصائدها حاضرة دوماً في الذاكرة الجمعية لأهل الإمارات، لأنها أسست لصوت المرأة المختلف في شكله ومضمونه، والمتآلف في ذات الوقت مع الأحداث والوقائع التي جمعت أبناء الوطن على قلب واحد وضمير مشترك.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©