الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

جويهر الصايغ.. شاعرٌ من ذهب

جويهر الصايغ.. شاعرٌ من ذهب
14 نوفمبر 2020 00:38

إبراهيم الملا

شهرٍ بدا بفراقه - لا حلّه - ليتِه قِصَرْ ما هَلّ
سرت أنشد م الشّفاقه - محلّه - لو في الظعون اشتلّ
قلبي نِكَسْ بأعواقه - ودوأً له - قفّوا به بالعجل
تالي حشايه باقِه - هنوىً له - بمّا فيّه فَعَل

يخوض الشاعر جويهر الصايغ في بحر القصيدة - وهو بحر مجازي وملموس في الوقت ذاته - قادماً من عمق الماء إلى حافّة الرمل، متهيّباً ومشتاقاً، يتأرجح بين الخوف والرجاء، والاستدلال والبهتان، إنّه الساكن بين ضديّن، إذا اقتربا رأت العين المنظر اليقين، وإذا ابتعدا اقترن الهاجس بالخَبّر المُؤَوّل، لا يمنعه حاجز من اختراق الوهم، واستباق الظنّ، عارمٌ كالموج لاستطلاع حال المحبوب، بعد غياب طويل ومرّ قضاه الشاعر وسط «الهيرات» مختبراً مشاقّ «الغوص» ومسليّاً النفس بفنون «الونّة» و«النهمة» واستدراج ذكريات «البرّ» إلى ظهر السفينة، مخاتلاً ومناوراً المسافة البعيدة الفاصلة بينه وبين سواحل أبوظبي، تلك السواحل الأثيرة، التي ينبض فيها الوله، ويتنفّس فيها الشوق، وترتسم فيها الملامح البهيّة للمعشوق.

يكشف جويهر الصايغ في القصيدة أعلاه - والتي أدّاها الفنان الكبير الراحل جابر جاسم - عن صورة مشهدية غاية في التباين والانقسام، ولكنه التباين المطلوب، والانقسام المرغوب في هكذا نوعية من القصائد الجامحة بنسقها التعبيري، والفائضة بمجالها الحسّي والتصويري، أنه الشاعر المثقل بالشغف الداخلي، والمزدحم بالرغبة اللاهبة لرؤية المحبوب، أو على الأقل سماع أخباره المريحة للبال، والمُطَمْئِنَة للخاطر، ولكن صدمة الخبر المفاجئ المعلن عن سفر المحبوبة إلى أرض «المقيظ» البعيدة، كانت هي الصدمة المريعة دون شك، والتي أصابته بما يشبه الانهيار الذاتي «قلبي نِكَس بأعواقه»، إنها انتكاسة القلب إذن، وهجمة «الأعواق» - الأسقام والهموم - التي لن يشفيها ويزيلها سوى رؤية المحبوب، وإزاحة كل هذا الضباب الكثيف من النأي والبُعد والهجران.
انتظر الشاعر شهراً كاملاً، ولم ترد الأخبار المتعلقة بمحبوبته، ما زاد من تكالب الأحزان عليه، وانهمار الشكوك على أفكاره وخيالاته، ولذلك يستطرد جويهر قائلاً:

«ما بي ضول الرفاقة - والحلّه - واللّي فيها نزل
بي من طالت أعناقه - عينٍ له - سودا هِدَبْها مظلّ
خدودٍ له برّاقة - وجيدٍ له - شروى ريمِ جِفَلْ
الروح له مشتاقه - وتتولّه - في كل زامِ يِزَلْ
باقي على ميثاقه - واحفل لّه - لين يوقّف اللّجلّ»

وهنا يعلن الشاعر عن موقفه إزاء هذا الانتظار الصعب، المتهادي بين فراق أكيد، ووصل قريب، وأمام حالة الانتظار المبهمة هذه، لا يجد الشاعر حلاً بديلاً سوى مفارقة الناس، ومجابهة الظروف القاسية مهما طال مكوثها وتشبثّها بمداركه وأحواله، ويلجأ الصايغ لمنفذ تعبيري أشبه بالسلوى، ويستفيض في وصف مزايا المحبوب وخصاله الظاهر منها والباطن، لعل في هذا الوصف التخيّلي ما يغنيه عن الحضور الفعليّ، كما أن ذكره لمنطقة «الحلّة» هو ذكر محاط بالتورية وغير معنيّ بالتعيين، رغم وجود مكان باسم «الحلّة» في واحة البريمي البعيدة جداً عن أبوظبي، فالتعيين ليس مهماً هنا، بقدر أهمية المنال والغرض والهدف من قول القصيدة ذاتها، فهو يبوح بها كنوع من التنفيس والإلهاء، وهو في ذات الوقت يمرّر شيفراته العاطفية، وتمنيّاته المُبَطّنة بأن تصل القصيدة إلى المحبوب أو إلى من هو قريب منه، وكأنه يبعث ما يشبه البريد السرّي، أو الرسالة الخفيّة، لذلك يختمها بقوله: «باقي على ميثاقي - واحفل لّه - لين يوقّف اللّجل»، ويسبق هذا التأكيد بوحه الظاهر باشتياق روحه للمحبوب حتى في غياباته القصيرة «في كل زامٍ يَزَلْ»، فما بالك بهذا الغياب المستمرّ، الجارح، والموغل في ضراوته وفداحته.

حكيم وشجاع 
يروي الكتاب أنه مع مرور الوقت وبروز الاسم الشعري اللافت لجويهر وحب الناس لقصائده وترديدهم لها، ظهرت غيرة الرجال من الحظوة التي امتلكها، ومن انتشار صيته كشاعر شجاع وحكيم، ويقول نور الدين: «كلما زاد صيت الشاعر ظهر امتعاض الآخرين ومضايقتهم له»، كما أن قصائده الهجائية التي أتت بمثابة دفاع عن النفس في هذا العراك المعنوي، أصبحت مصدر بلبلة وتسببت في ورود شكاوى كثيرة إلى الشيخ محمد الشامسي، الذي طلب من جويهر التوقف عن قول الشعر، لتهدئة النفوس، وتخفيف الاحتقان، فصمت جويهر لوقت طويل امتثالاً لهذا الأمر، وعندما طال صمته أنشد قصيدة مؤثرة وجهها للشيخ محمد يقول فيها:
«يا بن حمد يا سنادي /‏‏ رخصة قل لي مباح
بظهر كنين فْوادي /‏‏ نظْمٍ حلو نصّاح
ما يهتني برقادي /‏‏ لي مصوّبٍ بجراح
عوق المُوَدّة سادي /‏‏ فوق البدن منساح
شابك مشبك ليادي /‏‏ وين اشبكت لرواح
لفوادٍ له ما عادي /‏‏ ولا النظير التاح
ما بي سكن لفوادي /‏‏ بي من ظبا لبطاح
لو أنا بلغت مْرادي /‏‏ كان القلب استراح»
ولعلها القصيدة التي شفعت له على ما يبدو، وكانت هي ولادة أخرى جديدة في مسيرته الإبداعية، والتي شهدت مخاضات عدّة، وعقبات متكررة، أملتها الغيرة، والصورة الذهنية الخاطئة، والاختلالات الاجتماعية المنحازة لطرف ضد طرف آخر، خصوصاً ما حدث لشاعرنا عندما افتتح له محلاً لصياغة وبيع الذهب والفضة في أبوظبي، وهي المهنة التي تعلّمها أثناء زيارته لمسقط وتعرفه على الصاغة هناك، وكيفية معالجتهم للمجوهرات والأحجار والمعادن النفيسة، ومن هنا جاء لقبه «الصايغ»، وكانت للمكائد والحيل الأنثوية أثناء عملة في الصياغة دوراً آخر مؤثراً في مواجهته لمشاكل كبيرة أثناء وجوده في أبوظبي، التي رحل إليها واستقر بها بعد رحيل الشيخ محمد الشامسي.
وكان اختياره للسكن والعمل في أبوظبي مرتبطاً بانجذابه لشخصية الشيخ خليفة بن شخبوط الذي امتاز بقول الشعر وبالحكمة والبصيرة، والذي كانت قصائده تجري على ألسنة الناس - كما يذكر الباحث محمد نور الدين في كتابه - وقد رحّب الشيخ خليفة بن شخبوط بالشاعر جويهر وقرّبه منه، وأذن له بالاستقرار وإنشاء محل لصياغة الذهب والفضة.

الواشية
من القصص الطريفة التي حدثت للشاعر جويهر الصايغ أثناء إقامته بأبوظبي، تلك التي دارت بين شاعرنا وبين جارته، التي استأمنها في نقل رسائله إلى محبوبته، محذراً إياها من كشف سر هذا الحب، قبل أن يكتمل الأمر بالزواج رغم صعوبته، ولكن هذه الجارة غدرت به، وأفشت سرّه لبعض المتربصين به، وعندما اكتشف جويهر خديعتها، استدرك الأمر، وانسحب من الموعد المتفق مع المحبوبة، متجاوزاً بذلك ما لا يحمد عقباه، وفي هذه القصة الواردة بكتاب: «جويهر بن عبود الصايغ - سيرته وأشعاره» نقرأ القصيدة الهجائية اللاذعة والتي تنطوي على أنماط تعبيرية عجيبة، ومفردات تصويرية مدهشة كتبها شاعرنا في المرأة الواشية إثر هذه الحادثة، قائلاً فيها:
«حطّيت ثعبان موسى - في اثباني - وتواغلتني بناب
يا ذا القلب الطموسا - باضمامي - ما يندخل ذا الباب
باتوا عليه جلوسا - عدواني - بايمانيّة الأصحاب
لو ما سمعت حسوسا - بآذاني - حسّ الخِفا يرتاب
م الوقت خذت دروسا - ومتغاني - واعرف وزن لانجاب
والبذر لي به سوسا - بالعاني - لو ينزرع ما طاب
ومن قاري القاموسا - مَ تْراني - عندي نظر وحساب»

بدايات
ولد الشاعر جويهر بن عبود الصايغ في بدايات القرن التاسع عشر، أو قبل بداية القرن التاسع عشر بقليل، وتوفي قبل 150 عاماً، وذلك تبعاً للتفاصيل السردية المحيطة بحياة الشاعر المرتبطة بأزمان وشواهد وشخوص وحيثيات كان لها الفاعلية التاريخية - إذا صح الوصف - في إزاحة الركام التخيلي والميْل بدلاً عن ذلك للأثر التوثيقي.
إن الجمع بين قصائد جويهر وبين الحكايات الشفهية المتعلقة بحياته وما رافقها من أحداث مثيرة، جمع يرمّم الكثير من المواقف المتشظيّة في سيرته الطويلة والممتدة والحافلة، والتي كانت بحاجة لإعادة النظر في تفاصيلها وتفرعاتها ومنابعها، وهو الأمر الذي نجح فيه وبشكل ملحوظ الشاعر والباحث «محمد عبدالله نور الدين»، الذي أصدر مؤخراً كتابه «جويهر بن عبود الصايغ - سيرته وأشعاره»، ضمن منشورات معهد الشارقة للتراث، وذلك بمناسبة مرور 150 عاماً على رحيل الصايغ.

  • محمد نور الدين
    محمد نور الدين

والجهد الذي بذله «نور الدين» هو جهد كبير ومقدّر دون شك في استحضار وتدوين وتثبيت العديد من قصائد الشاعر جويهر، وكذلك توثيقه للكثير من القصص والمرويات المعبّرة عن الظروف الاجتماعية بحلوها الناقص، ومرّها الزائد، الطيّعة أحياناً، والعصيّة على الترويض في أغلب الأحيان، تلك الظروف التي فرضتها الأحوال السائدة والأعراف الشائعة، والتي جعلت من لون وعرق وأصول شاعرنا جويهر الصايغ، عناصر مُفضية للقلق الوجودي، والاختبار المُضني مع التفاسير المغلوطة والآراء العنصرية الجارحة، جابه الصايغ وحيداً الميراث الاجتماعي المعتم للطبقية والتمييز، وبقى صامداً وقوياً بذكائه وموهبته وشجاعته، ورغم الخيبات والانكسارات المتلاحقة في حياته، إلاّ أنه استطاع تجاوزها والقفز عليها مستنداً على براعته الشعرية، ونضاله الروحي، ودأبه ومكابدته في إيصال وجهة نظره حتى لو لم يتم ترجمتها على أرض الواقع، بسبب هيمنة الفكر الجمعي، وقوة الوضع السوسيولوجي بإملاءاته الموجعة، وشروطه القاسية.
يذكر محمد نور الدين في مقدمة كتابه أن شاعرنا كان قد قضى طفولته في حصن الشيخ محمد بن حمد رحمة الشامسي في منطقة «ايليه» بأطراف «الختم» بين أبوظبي والعين، وأن الشيخ محمد الشامسي رعاه وأولاه اهتماماً خاصّاً، كونه طفلاً يتيماً، فقد والده منذ نعومة أظفاره، وأنه سميّ: «جويهر» - وهو تصغير كلمة «جوهر» - عطفاً على يتمه وبراءته، والتصق هذا التصغير باسمه حتى آخر حياته، ويشير الباحث نور الدين إلى أن جويهر حظي في مقتبل العمر بفرصة الجلوس مع الرجال، والتعلم منهم، بدلاً من أن يكون باحثاً عن لقمة العيش، ومكافحاً يعاني شظف الحياة، لذا ترعرع في جوّ يتعلم فيه الحِكَم، ويستمع إلى أحاديث حسنة المنطِق والمنطّق.
اعتمد نور الدين في كتابه على المقابلات الشخصية مع الرواة وكبار السن المهتمين بشعر وسيرة الصايغ، وبقصصه المتناثرة التي يحفظونها، كما اعتمد على قصائد جويهر المدوّنة في كتاب الدكتور حمّاد الخاطري الصادر عام 2003 بعنوان: «أعذب الألفاظ من ذاكرة الحُفّاظ»، وقد أضاف نور الدين ما يملكه من قصائد أخرى لم يسبق نشرها، ليصبح الكتاب أقرب للديوان الوحيد المستقلّ للشاعر، مع شرح معاني ومفردات القصائد، وسرد الحوادث والحكايات المرتبطة بها ضمن قالب بصري مشوّق، وسيناريو حافل بعناصر الصراع والحبكة والبداية والذروة والنهاية، وكأننا أمام مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة المتعلقة بكل حدث عاشه «جويهر».
ويرد في كتاب نور الدين ما يستشفّ منه أن الأجواء المريحة والسهلة التي عاشها الشاعر في بدايات تكوينه الشعري لم تستمر طويلاً، حيث جابه في محطات حياته التالية العديد من التحديات الصعبة، خصوصاً فيما يتعلق بقصته مع محبوبته وما أحاط بهذه القصة من أقاويل وإشاعات وإهانات وتصغير وملاحقة وتضييق، ما أجبره في النهاية على الرحيل.

لحن «الونّة»
يشير الشاعر والباحث محمد عبدالله نور الدين إلى أن معظم شعر الصايغ أتى على لحن «الونّة»، وهو لحن حزين ومعبّر، يتميز بديناميكية خاصّة، لا يعتري سامعه ومنشده الملل، مهما تكرّر التغنّي به، وأنه كان يتنقّل بين مناطق «الظاهرة» مثل «السنينة»، و«ضنك»، و«حماسه» و«المعترض» وإلى الإمارات الشمالية، ومنطقة «الحيرة» في الشارقة تحديداً، حيث يسكن عمومة الشيخ محمد الشامسي، وقد تعلّم جويهر في هذه الرحلات مبادئ الفروسية، وامتلك روح الشجاعة، وأصبح المرافق الأول للشيخ محمد الشامسي، وساعده الأيمن.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©