الإثنين 27 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

د. شريف عرفة يكتب: مؤامرة الكائنات الفضائية

د. شريف عرفة يكتب: مؤامرة الكائنات الفضائية
12 فبراير 2022 01:15

من المفيد أن يكون الإنسان متشككاً، ساعياً لانتقاد أفكاره القديمة لتحديث رؤيته للعالم. هكذا يفكر العلماء، بانتقاد دراساتهم ذاتها والبحث عن أوجه الخلل والقصور فيها، لدرجة أن فيلسوف العلم «كارل بوبر» قال ذات يوم: إن النظرية التي لا يوجد إجراء محدد يمكن اتباعه لدحضها، فهي ليست علميّة بالأساس، بل ضرب من السفسطة!
كل هذا جميل .. لكن ألا يعني أن المؤمنين بنظريات المؤامرة يتمتعون بقدرة على التفكير الناقد؟
الأطباق الطائرة مثلاً، كانت حكراً على فئة معينة من المؤمنين بالخوارق والماورائيات، لكنها اليوم أصبحت أمراً واقعاً بعد نشر البنتاجون لفيديوهات طيارين في الجيش الأميركي رصدوا أجساماً لا يعرفون طبيعتها.. أليس هذا دليلاً على أن التآمريين على حق، وأن الأرض مسطحة كذلك وكل ما يقوله العلم هراء؟
في الحقيقة .. هناك فارق صريح بين التفكير العلمي والتآمري .. فالتفكير العلمي يقتضي تقييم كل الاحتمالات من دون تحيّز مسبق، وأن افتراض انتماء هذه الأجسام لكائنات فضائية، يساوي احتمال كونها نتاج تكنولوجيا بشرية متقدمة لم يتم الإعلان عنها.. كلا الاحتمالين وارد إلى أن نجد دليلاً يرجح أحدهما.. بل إن في إمكاننا الفصل بين هذه ظهور الأجسام من ناحية، وفكرة وجود كائنات فضائية من الناحية الأخرى، لضعف الدليل الذي يربط بين القضيتين.. وهذا هو الفرق الحقيقي بين التفكير العلمي، والتفكير المؤامراتي: محاولة تفادي التحيز المسبق، وتقييم الأدلة بشكل محايد قدر المستطاع.
فكرة زيارة كائنات فضائية لكوكبنا فكرة جذابة حتى لكاتب هذا المقال، لكن مدى الاعتقاد فيها يتطلب تروياً واحتكاماً لأدواتك العقلية قبل التسرع .. حبي للفكرة شيء، والثقة في صحتها شيء آخر.. هناك صفة نفسية اسمها «القدرة على تحمّل الغموض» يتميز بها العلماء والحكماء .. وتعني القدرة على ضبط النفس قبل التسرع بإعطاء تفسير عند غياب المعلومات .. أي حين لا يكون الأمر أبيض ولا أسود، بل وسط الدرجات اللانهائية للون الرمادي، ويظل في هذه المساحة إلى أن يوجد دليل قاطع .. بينما لا يفكر الشخص العادي هكذا.. لن يحتمل هذا القلق المعرفي، ويقرر القفز فوراً للتفسير السهل المثير والشائق.. هذا مريح عقليا، كما يعطيه إحساساً بالأهمية وعلو المكانة، بأن يعتبر نفسه عالما بالحقيقة المخفية عن باقي الناس من الجهلة المضحوك عليهم!
منذ سنوات وقع في يدي كتاب مضحك، يحذرنا فيه المؤلف من أن المسيخ الدجال يعيش في مثلث برمودا ويرسل الأطباق الطائرة - التي يقودها الجن - ويسيطر على الإعلام بنشر كارتون الآليين الخارقين «مازنجر وغراندايزر» لتهيئة الأطفال لقدومهم، لذا يدعو لمقاطعة مسلسلات الرسوم المتحركة كي لا تنخدع الأمة بهذا المخطط!! مزيج مدهش من السخف والهراء والعبث، لكن لا تنكر أنه مثير! هذه حكاية خيالية شائقة جمعت لك كل المدهشات في سلة واحدة.. بمثل هذه الوصفة بيع الكتاب وتحقق الأفلام المثيرة الإيرادات.. الإثارة هي شعار اللعبة!
في تجربة شائقة للباحث «فان بروجين» وزملائه من جامعة أمستردام، جعلوا المشاركين يقرؤون عن انتخابات مثيرة للجدل في بلد لا يعرفون أنه خيالي.. لكن نسخة من القصة كانت مكتوبة بشكل رسمي رصين، والنسخة الأخرى كانت مكتوبة بشكل مثير وشائق.. فوجدا أن الذين قرؤوا النسخة الشائقة، كانوا أكثر اعتقاداً بأن هناك مؤامرة لتزوير هذه الانتخابات.. هذا بلد خيالي.. لكن الشعور بالإثارة دفع القارئ في هذا الاتجاه..
بالطبع، لا يعني هذا أنك تصدق أن الأرض مسطحة لمجرد أن هذا مثير.. فما يحكم التصديق هو مدى «مناعتك العقلية» لو صح التعبير.. هل يعقل أن يتآمر كل البشر بلا هدف لمجرد خداعك بأن الأرض مسطحة؟ ألا تكفي الأدلة العلمية للقياس والتحقق التي درستها في المدرسة (مثل مقارنة أطوال الطلال عندك وعند صديقك في بلد آخر)؟  ما يحكم موقفك من الأمور هو رؤيتك المسبقة للعالم، التي صاغها مستواك الثقافي والتعليمي وقدراتك الذهنية.. وأيضا: مدى احتمالك للغموض!
أحب أفلام الكائنات الفضائية.. ويبدو لي - بمنطق معادلة «دراك» - أنها موجودة في غالب الظن .. أما الأطباق الطائرة، فهي أجسام مجهولة، تدعوني الفرامل الذهنية للتروي قبل التسرع بالقفز في براثن التفكير بالتمني كمحب لأدب الخيال العلمي.. وأن أتحلى بالقدرة على تحمل الغموض، والمساواة بين كل الافتراضات، كي أكون جديراً بحياد التفكير العلمي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©