يجمع بيننا وبين أبريل، شهر الربيع الأجمل بين شهور السنة في بلادنا، نوع من العشق الخاص! ورغم أنه شهر ولادة الأزهار والورود والدحنون والحشائش الخضراء، نجده يحمل لأبناء فلسطين والعرب وشرفاء العالم، ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه «الموت» الزؤام! ففيه قضى عبدالقادر الحسيني وعدد من رفاقه، مثلما رحل فيه معاً القادة كمال العدوان ويوسف النجار وكمال ناصر. ثم ذات أبريل لاحق، ارتقى «أمير الشهداء» خليل الوزير (أبو جهاد) وغيره كثير. غير أن عزاءنا في تحوّل أبريل من شهر «ولادة» للحياة إلى شهر «موت» لكوكبة من قادة فلسطين، يتجلى في كونهم شهداء... «أحياء عند ربهم يرزقون»!
وقبيل انتهاء أبريل عام 2019، وتحديداً في الثلاثين منه، فجعنا برحيل المناضل، الشرس‏‭ ‬في ‬الكفاح، ‬الوديع ‬في ‬الحوار، ‬«صبحي ‬سعد ‬الدين ‬غوشة» (‬أبو ‬سعد)‬. ‬فقد ‬كان مسؤولاً ‬حزبياً ‬عُني ‬بي في «‬حركة ‬القوميين ‬العرب» ‬طوال ‬إجازتي ‬الصيفية ‬في ‬القدس ‬ورام ‬الله، ‬عائداً ‬إليهما (‬1963) ‬من «‬الجامعة ‬الأميركية ‬في ‬بيروت»‬. ‬ومنذئذ، ‬توطدت ‬العلاقة بيننا ‬في ‬القدس ‬والكويت ‬وعمّان، ‬في ‬الأطر ‬المتنوعة ‬لمنظمة ‬التحرير ‬الفلسطينية، ‬ثم ‬لاحقاً ‬في «‬مؤسسة ‬عبدالحميد ‬شومان» ‬التي ‬توليت ‬مسؤوليتها ‬التنفيذية ‬على ‬مدى ‬17 ‬عاماً، ‬وأصبح ‬الدكتور ‬صبحي ‬طبيبها ‬المعتمد، ‬وأخيراً - وحتى ‬رحيله- ‬جمعتنا ‬الخدمة ‬في ‬عدة ‬جمعيات ‬مقدسية.
ولد المناضل والكاتب الفلسطيني صبحي غوشة في حي الشيخ جراح في القدس (1929)، وأنهى دراسته الثانوية فيها (1946) ليتخرج طبيباً في الجامعة الأميركية في بيروت (1953). ولأنه امتلك الوعي والنضج السياسي المبكر، ولأنه انتماء إلى جيل نكبة 1948، التحق سريعاً بحركة القوميين العرب التي أسسها جورج حبش، رفقة كل من هاني الهندي، والدكتور وديع حداد، والدكتور أحمد الخطيب. وفي القدس، عمل الدكتور صبحي طبيباً في «وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين»، ثم في عيادته الخاصة، مواصلاً هناك نشاطه المهني، كطبيب متطوع، في «الهلال الأحمر» و«الاتحاد النسائي» «ودار الطفل العربي» (1953 –1969). ويكفيه فخراً دوره التأسيسي والقيادي في «جمعية المقاصد الخيرية» (1954) و«مستشفى المقاصد الخيرية» (1967)، القلعة الطبية الصامدة حتى اليوم، وعضوية بلدية القدس (1959)، ومجلس أمانتها (1963).
بعد «نكسة» يونيو 1967 أسس، مع شيخ المناضلين الأستاذ بهجت أبو غربية، «جبهة النضال الشعبي الفلسطيني»، حيث اعتقلته قوات الاحتلال غير ما مرة، وحوكم أمام محاكمها العسكرية. وكنت قد التقيته من جديد في «سجن الرملة» قبل إبعاده إلى الأردن (1971)، منتقلاً إلى وزارة الصحة في الكويت حتى (1974)، ثم في عيادته الخاصة فيها، حتى نهاية (1990). ولأنه لم ينس فلسطين في أي زمان أو مكان، أسس في الكويت «اتحاد الأطباء والصيادلة الفلسطينيين» (1974)، و«صندوق القدس الخيري» (1982)، و«فرقة القدس للتراث الشعبي». ولاحقاً حين استقر في العاصمة الأردنية (1991)، أعاد إحياء «لجنة يوم القدس» النشطة والفاعلة، ووضع أكثر من كتاب هادف ومرجعي عن تجربته وعن القدس.
ولطالما رفع غوشة راية فلسطين، وفي القلب منها «زهرة المدائن». واليوم، تبادله فلسطين، ودرّتها «بيت المقدس» (ونحن جميعاً).. المحبة الكبيرة والوفاء لذكراه العطرة.

*كاتب وباحث سياسي