ربما تكون أوروبا هي المنطقة الجغرافية الأوفر حظاً، من بين مناطق العالم الاقتصادية، في الفوز بالحصة الأكبر من مكتسبات عالم ما بعد كورونا، فالأوروبيون كانوا يحتاجون طوال السنوات العشرين الماضية (لحدث مزلزل) ينقلهم من فضاء اقتصادي يصعب الخروج منه، إلى فضاء آخر يحوي فرصاً وآمالاً جديدة.
كثير من التغيرات المهمة كانت تلقي بظلالها على الحال الأوروبية قبل ظهور جائحة كورونا، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمظاهرات والاحتجاجات المستمرة لأصحاب السترات الصفراء في فرنسا، والانكسارات المتتالية في بنية اقتصاديات دول شرق وجنوب القارة العجوز، لكن كل ذلك لم يكن ليغير شيئاً في الحال، بل كانت كل هذه الأحداث وغيرها تزيد من سوء الوضع الأوروبي وتسهم في تعقيده أكثر، إذ أنها كانت تفوت على عرابي الحلول ومفكري الاقتصاد والسياسة في أوروبا التفكير في «حل شامل جامع» للمشكلات المزمنة، وتجعل منهم أسرى للحلول المنفردة التي كانت تستهلك الوقت والجهد والمال.
ما قبل أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي وعلى مدى عقود طويلة، كانت دول أوروبية عديدة تمتص موارد العالم من خلال تواجدها الاستعماري في أكثر من قارة. كان الأوروبيون يسرقون الطعام من أفواه الجائعين في أفريقيا وآسيا، ويرسلونه لأطفالهم على بعد آلاف الأميال. ويستخرجون الموارد الطبيعية من أراضي الدول الفقيرة، ويشغلون بها مصانعهم في مدنهم المتحضرة في الشمال. كانت أوروبا - حرفياً - تشتغل وتنمو وتكبر بفضل المساعدات المجانية التي كانت تأتيها، بالقوة، من خارج الحدود. كانت تعمل، بفضل «يد العون»، التي كانت تمتد لها قسراً.
وبعد انحسار الحالة الاستعمارية في العالم، وعودة كل دولة بعد الحرب العالمية الثانية إلى داخل حدودها الجديدة، انكفأت أوروبا على نفسها، وسلمت النفوذ السياسي في العالم لأميركا والاتحاد السوفييتي، وراحت تشتغل على إطعام أطفالها وتشغيل مصانعها بمواردها الذاتية، لكنها ولسخرية القدر، كانت تفعل ذلك بنفس العقلية القديمة لأوروبا ذات الامتداد الإمبراطوري العالمي! لم تخضع للواقع الجديد، ولم تقبل بفكرة الإنتاج من الداخل، ولم تستطع التخلص من إرثها القديم.
سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد، بدأت أوروبا تضعف نتيجة لعدم إنتاجها لحلول تتناسب مع واقعها الجديد. لم يساعدها تشكيل تحالفات صغيرة بين بعض دولها. ولم يخرجها من المشكلة تأسيسها لـ«الاتحاد الأوروبي» في أوائل تسعينيات القرن الماضي. كانت بمختصر القول، تقضم أحلامها الإمبراطورية قطعة قطعة، حتى قضت تقريباً خلال السبعين عاماً الماضية على الهيكل الرئيسي «لأوروبا الاستعمارية العظيمة» من غير أن تستطيع أن تخلق أوروبا جديدة على غرار اليابان الجديدة. فشلت العجوز التي تحتضر، في أن تسير على خطى الإمبراطورية اليابانية، التي احتفظت باسمها وتخلصت تماماً من هياكلها القديمة في لحظة واحدة، لتتخلق شابةً مفعمةً بالنشاط، تسير إلى المستقبل بلا ذاكرة تسحبها للماضي!
أوروبا الآن، بفضل فيروس كورونا، سقطت في قاع البئر، وحطمت ما تبقى من «أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية»، ولم يعد أمامها من حلول سوى النظر إلى الأعلى والانفتاح على العالم، والتخلص من فكرة كونها «بنية رجراجة» ينحصر دورها في فصل الوجود الروسي عن الوجود الأميركي على الخريطة العالمية. مرحباً بأوروبا في العالم. مرحباً بالتوسع الاقتصادي القائم على المصالح المشتركة، ووداعاً لأوروبا المريضة التي كانت تنام على سرير من ذهب.