صدر عن منظمة الأغذية والزراعة العالمية «فاو» الأسبوع الماضي تقرير مهم يؤكد استنتاجات سابقة تمت الإشارة لها هنا تتعلق بوفرة المواد الغذائية في الأسواق الدولية، بما فيها أسواق دول مجلس التعاون الخليجي، وأشار التقرير إلى انخفاض حاد في أسعار السلع الغذائية في الأشهر الثلاثة الماضية، إذ انخفضت أسعار المواد الأساسية، كمنتجات الألبان واللحوم والزيوت النباتية بنسبة 3.4% كمتوسط في شهر أبريل الماضي، مقارنة بشهر مارس 2020، إلا أن الانخفاض الأكبر طال مادة السكر التي انخفضت بنسبة كبيرة بلغت 14.6%، حيث أرجع التقرير هذا الانخفاض المتواصل إلى الآثار اللوجستية والاقتصادية لجائحة كورونا.
لقد استغلت بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في بداية أزمة كورونا الهلع الذي أصاب بعض المستهلكين، وحاولت بصورة ساذجة تصوير التهافت في بعض دول المجلس على الأغذية، وكأنه هناك أزمة غذاء قادمة، إلا أنه سرعان ما تكشفت الحقيقة، وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي، بعد ما حصل كل من أصابه الهلع على احتياجاته من المواد الغذائية كاملة بيسر وسهولة.
مشكلة الإعلام الساذج إنه لا يأخذ بعين الاعتبار التقدم التقني، ولا يتابع التقارير الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، فالتقدم التقني أدى إلى حدوث نقلة نوعية في جني المحاصيل الزراعية، التي تمت أتمتتها بالكامل في البلدان الرئيسة المنتجة للمواد الغذائية، بما فيها البلدان النامية في آسيا وأفريقيا، وبالتالي، فإن الإغلاق الاقتصادي لم يؤثر في حجم الإنتاج الزراعي على اعتبار أن الآلة هي من تقوم بحصاد المنتج وتجميعه وتنظيفه وتعبئته وإعداده للاستهلاك النهائي، وهو ما يتطلب الحد الأدنى من الأيدي العاملة.
أما المسائل اللوجستية، فإنه يمكن التغلب عليها، وهو ما يتم بالفعل، فدول مجلس التعاون- على سبيل المثال- ورغم إغلاق الحدود البرية والجوية والبحرية أمام المسافرين، إلا أنها ظلت ولا زالت مفتوحة أمام حركة التجارة ونقل البضائع. وما يمكن أن يؤثر في إنتاج بعض السلع الغذائية بصورة كبيرة، هو التغير المناخي، ففي الشهر الماضي على سبيل المثال دمرت الأمطار الغزيرة، والتي جاءت قبل موسمها، وقبل الحصاد بفترة وجيزة مساحات شاسعة من مناطق زراعة الأرز في الهند وباكستان، إلا أنه حتى مثل هذا التراجع في محصول هاتين الدولتين سيتم تغطيته من بلدان أخرى، كتايلاند التي تعتبر أكبر مصدر للأرز في العالم.
والحال، فإن المشكلة الأساسية في دول المجلس لا تتعلق بنقص المواد الغذائية، كما تشير بعض وسائل الاعلام التحريضية، وإنما بأمر آخر أهم خاص بثقافة الاستهلاك، فتقرير منظمة الخليج للاستشارات الصناعية يشير إلى أن قيمة الواردات الغذائية لدول المجلس بلغت 29.17 مليار دولار في عام 2016، ارتفاعاً من 23.6 في عام 2014، أي بنسبة كبيرة بلغت 11.2% ومن المتوقع أن ترتفع بصورة حادة إلى 53.1 مليار دولار في غضون السنوات الأربع القادمة.
والحقيقة أن هذا الارتفاع لا يعود بكامله لتزايد المتطلبات الغذائية الأساسية للسكان، وإنما هناك فاقد بنسبة تتراوح ما بين 15-20% ترتبط بسلوك الاستهلاك والتبذير، ما يؤدي إلى نتائج سلبية تتعلق بالميزان التجاري لهذه الدول وتأثر ميزانية الأسر ذاتها في الوقت نفسه، والتي يمكن أن توفر 20% من إنفاقها على شراء المواد الغذائية، والتي تجد طريقها لسلة المهملات، ما يعني أنه يمكن توفير 200 عن كل 1000 درهم أو ريال أو دينار من مصاريف الغذاء، وهي نسبة كبيرة بالتأكيد.
من هنا، فإن المشكلة لا تكمن في نقص الغذاء، وإنما في نمط الاستهلاك المسرف، كما تكمن في الاستغلال غير المبرر لبعض الموردين، والذي أدى إلى تضاعف أسعار بعض السلع أكثر من ضعفين في ظل غياب مراقبة بعض وزارات التجارة والاقتصاد عن الأسواق ومعاقبة المتجاوزين، ما يتطلب حل هاتين المعضلتين من أجل توازن الأسواق من ناحيتي الاستهلاك والأسعار.