تمضي بنا سريعاً أيام رمضان التي نعيشها ضمن أجواء غير اعتيادية، والتي قلما شهد المسلمون حول الأرض مثلها، فأغلبيتهم- في كل عام- يؤمون المساجد طوال أيام الشهر، ويكاد لا يغيب معظمهم عن إحياء العشر الأواخر منه فيها، فيما المقتدرون يتوافدون إلى أرض الحرمين الشريفين في مكة والمدينة لأداء العمرة، وألسنتهم تلهج بالدعاء، ملتمسين من المولى عزّ وجلّ سكينة الروح وحسن السبيل والخاتمة، لكننا في هذا العام نشهد غير ما شهدناه واعتدنا عليه في الماضي، فيعزّ علينا إغلاق أبواب الحرمين، تحديداً، أمام المصلين والمعتمرين والحجيج، وللمرة الأولى لم نرَ الناس يطوفون حول الكعبة، وكل ذلك اتقاءً لشر فيروس كوفيد-19 الذي أقضّ مضاجع أهل المعمورة، وجعلهم يعيشون مكرهين في معظم الدول عزلة شبه تامة عن أهاليهم وأقاربهم وأصدقائهم أيضاً، وممنوعين من التنقّل.
وإذا كانت الغالبية العظمى من البشر قد التزمت بقرارات حكوماتهم حرصاً على سلامة مجتمعاتهم، فلماذا يغالي بعض المسلمين في آرائهم ويرفعون أصواتهم عالياً لمخالفة ذلك، وخصوصاً فيما يتعلق بالصلاة في المساجد. وحسبنا أن قرارات الحكومات بهذا الشأن ليست فيها غايات شخصية، إنما تنطلق من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، ولعل معظم المسلمين يدركون معنى عبارة (صلّوا في رحالكم) التي ترددت لأول مرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما نادى المؤذن بها في يوم ماطر، فصلى الجميع في بيوتهم، بمن في ذلك الصحابة، بامتثال كامل ودون جدال.
ولأن أكثرنا لا يعرف أحداثاً مشابهة جرت في تاريخ الإسلام، فقد عُدتُ إلى بعض المراجع التي تحدثت في هذا الشأن، حيث ورد في كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير، وفي «تاريخ الرسل والملوك» للطبري أن الحرم المكي شهد أمراً كالذي نعيشه اليوم، حيث تم تعطيل ركن الحج ومنعت صلاة الجماعة بتاريخ 26 محرم من عام 64 للهجرة (683 للميلاد)، وذلك حينما حاصر جيش الحصين ابن نمير المسكوني مكة مستهدفاً عبد الله ابن الزبير، فنصب المجانيق وضرب بها أهل مكة، وأصاب الكعبة حتى احترقت وتهدمت أجزاء كبيرة منها، وقد استمر حصاره لها حوالي شهرين ونصف، وخلال تلك المدة أوقف الطواف والسعي، ولم تقم شعائر الصلاة، واستمر ذلك حتى انتهى ابن الزبير من أعمال إعادة بناء ما تهدم. بعد بضع سنوات في شهر ذي الحجة سنة 72 للهجرة، حاصر الحجاج بن يوسف الثقفي البلد الحرام 8 أشهر تقريباً، ومنع الحج آنذاك، وفي عام 317 للهجرة هاجم القرامطة مكة، ودخلوا بجيشهم إلى الكعبة في يوم التروية، وقد قتلوا أكثر من 30 ألف حاج، وانتزعوا الحجر الأسود من مكانه ليظل بعيداً عن موقعه 22 عاماً، إلى أن تم استرداده في وقت لاحق. أما المرة الرابعة لمنع الحج، فكانت في سنة 357 للهجرة في عهد الخليفة الفضيل بن المقتدر، وقتذاك انتشر الطاعون أو «الماشري» كما أطلق عليه أهل الحجاز. باغت ذاك الوباء الحجيج، وقضى على أكثرهم، ولم يعد إلى بلادهم منهم سوى نفر قليل.
أما آخر مرة أوقفَ فيها الطواف فكانت منذ عهد قريب، وأعتقد أن كل من سبقني، ومن هم في جيلي يتذكرون ما حدث عام 1979 في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز، عندما اقتحم جهيمان العتيبي - الذي ادعى أنه المهدي المنتظر- وعصابته ساحة الحرم، فمنع الطواف، وروع الناس الآمنين، وقتل من قتل آنذاك.
في كل تلك الظروف توقفت الصلاة في مكة المكرمة مثلما توقف الطواف، ولم يكن أن اعترض أحد من الناس. ولكن أن نسمع اليوم أناساً يحرضون على كسر القرارات من باب أنه لا يمكن لأحد أن يمنعهم من أداء صلواتهم في المساجد، فهذا كثير جداً، ولا شك أن ذلك ينمّ عن جهلهم وعن استهتارهم بصحة الناس وسلامتهم، وبالتالي عليهم مراجعة أنفسهم من ناحية لأن العقل زينة الإنسان. ومن ناحية أخرى، على الناس ألا يستجيبوا لدعواتهم التي هي في حقيقتها شر مطلق، وبالتالي ليست الدول الإسلامية وحدها من أغلقت دور العبادة فيها بسبب كورونا، حتى دور عبادة الناس ممن يدينون بديانات أخرى أُغلقت. وبالتالي علينا أن نعي أن في ذلك مصلحة لمجتمعنا، وهي حتماً الأهم والأشمل.