فرضت الواقعية السياسية على الزعيم جمال عبدالناصر قبول انفصال سوريا عن مصر عام 1961 بعد سنوات قليلة من الوحدة التي جمعت بين القاهرة ودمشق في إطار الزخم القومي العربي الذي انتهى بالواقعية السياسية التي تكررت في العالم العربي بصيغ مختلفة بانفصال السودان شماله عن جنوبه، بل إن الواقعية هي التي حالت من دون أن تترجم شعارات القوميين العرب بالوحدة العربية الكبرى حتى في أضعف أحوالها بالتكامل الاقتصادي الذي مازال حبراً على ورق.
ترافق مرور الذكرى الثلاثين على تحقيق الوحدة الألمانية مع مرورها في اليمن، وبين التجربتين تبدو الواقعية حاضرة، فعلى رغم ما تمثله المانيا من قوة اقتصادية عالمية فإن تقارير رافقت الذكرى تحدثت عن فجوة اجتماعية تسببت في السنوات الأخيرة بظهور النزعة الشعبوية في شرق ألمانيا كنتيجة لتأخر التنمية في بعض المناطق الريفية، وأن حنيناً واسعاً لدى الألمان الشرقيين للعودة إلى ما قبل وحدة العام 1990.
في اليمن مرت الذكرى الثلاثون على وقع اشتباكات عنيفة في محافظة أبين شرق العاصمة الجنوبية عدن التي صنفتها الحكومة اليمنية من المنفى أنها مدينة موبوءة، بعد أن تفشت الأمراض والأوبئة، وتخلت كافة الأطراف السياسية عن مسؤوليتها، وتحولت المدينة كورقة ابتزاز سياسي دفع ثمنه سكان المدينة والمحافظات الجنوبية، الذين استكملوا تحرير محافظاتهم منذ خمس سنوات، وتعين عليهم خوض معركة مزدوجة بتطهير أرضهم من الخلايا الإرهابية وانتظار صحوة الواقعية عند المجتمع الدولي والعربي لقضيتهم.
من المفارقات في مشاهدات الذكرى الثلاثين للوحدة اليمنية أنها تحولت إلى العالم الافتراضي لإحيائها والاحتفاء بها، فلم يجد أحد ما يستحق الحفاوة باتحاد يمني لم يعد قائماً غير في رسائل الحكومات المتناقضة بين المنفية وبين التي تفرض على صنعاء سياسة إيران بواقع فرض الغطرسة. رسائل توزعت على منصات الحكومات الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي في تعبير صحيح قد يكون متأخراً عن أحلام القوميين العرب في الخمسينيات والستينيات الميلادية التي كانت تنقصها هذه الوسائط الإلكترونية لترسم ملامح الوحدة العربية الكبرى من المحيط إلى الخليج.
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، فالواقع الحالي تحول إلى كابوس قابل لمزيد من ضخ الكراهية في النفوس وشحنها لتكرار ما حدث في حرب صيف العام 1994، مع تحفز المؤدلجين بإعادة إصدار فتاوى التكفير بذات الدعوى الأولى بأن الجنوبيين شيوعيون ملحدون مرتدون عن الوحدة التي ليست ركناً من أركان الإسلام إلا في رؤوس علماء اليمن الذين تلعثموا عن إصدارهم فتاوى ضد وحشية «الحوثيين» وما ارتكبوه من مظالم.
لا مفر من الواقعية في اليمنو فكل الحلول الحالمة لن تخرج هذا الجزء من العالم من الاحتراب والصراع المستدام، بل إن الواقعية نفسها تعيد قراءة مشهد حكومة منفية باتت مقيدة بضغوط المحور التركي القطري أكثر من أن تمثل المحور العربي، وهو ما يدعو لسرعة اليقظة، فالأتراك لهم أطماعهم في سواحل بحر العرب وباب المندب لتهديد الأمن السعودي والمصري معاً.
في مقابل كل مشاعر الإنسان العربي الحالم بوحدة قومية هناك مظالم تقع على إنسان آخر يرفض أن يكون جسراً لأقدام تعبر على جسده لأجل أحلام لم تكن سوى شعارات لم تترجم في فلسطين أو في أي شبر من هذا العالم العربي. فالوحدة هي وحدة الإنسان في الحياة الكريمةو وليست في وطن مفرغ من الكرامة ومسكون بالخوف والجوع والأمية والإكراه ليكون تابعاً لإنسان آخر يفرض عليه المذهب والانتماء، فالواقعية وحدها هي التي تقود عدن منذ انطلق حراكها السلمي في 2007 إلى الجمهورية الثانية، وستأتي لحظة وعي على وقع الحقيقة على الخيال والأحلام المبعثرة التي لا معنى لها.
*كاتب يمني