نشهد اليوم ثورة تؤسس لمستقبل يقوم على المعرفة، بصفتها محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي ورفاهية الأمم، ويصبح فيه التحول إلى مجتمع معرفي لازماً من أجل صناعة النجاح، بل ستصبح المعرفة هي الميزة في ازدهار دولة أكثر من أخرى، ولا يمكن أن يتحقق التقدم المعرفي من دون استثمار جادّ في الأسس التكنولوجية، وكذلك البشرية لهذه الثورة، وعلى الأخص في تعاظم أهمية المعرفة بدخول البشرية في عصر الثورة الصناعية الرابعة، التي لن تكون مقصورة على الصناعة فحسب، بل ستمتد إلى كل مناحي حياتنا الشخصية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وستعتمد ثورة المعرفة، بشكل كبير، على قدرة الحكومات والمنظمات والأفراد على توظيف التكنولوجيا لخلق قيم تضاف إلى رأس المال الفكري الذي لديهم، وعلى تكييف أشكال المعرفة للوصول إلى حلول عملية لبيئات أكثر شمولاً وثراءً وأمناً، وأفضل مثال على هذا ما نراه اليوم من تسخير لأدوات التكنولوجيا لغايات التعلُّم عن بعد، أو العمل من المنزل؛ في ظل الأزمة التي يعيشها العالم حالياً بسبب جائحة فيروس كورونا، ومن المؤكَّد أن الثورة المعرفية المقبلة ستجعل الأشياء أكثر ذكاءً، لكنها ستمثل على الأخص تحدياً للأفراد في التحول بنجاح إلى أنماط الوظائف المطلوبة مستقبلاً، وهنا خصوصاً يبرز دور التعلم والتعليم في تحفيز الأجيال القادمة على الابتكار وصناعة المعرفة، وفي المساهمة بجهود البحث والتطوير لتلبية احتياجات الإنسان المتنامية، ولن يمكن أن تتم صناعة مستقبل كهذا من دون التحول إلى الإنتاج المعرفي عبر التكنولوجيات المتقدمة، وبالتالي سيكون لزاماً على الدول قبول تحدّي مواكبة التقدم التقني المتسارع والاستثمار في عناصره لخلق معرفة جديدة، والتقدم بين الأمم، أو الركون إلى ما اطمأنت إليه من معرفة، والتراجع في غياهب التخلُّف والنسيان.

دور التكنولوجيا في ثورة المعرفة
مكَّن الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، والاتصالات الفائقة، وغيرها من التقنيات المتقدمة، من تحقيق مستويات معرفية غير مسبوقة، ولكن تبرز حقيقة الثورة المعرفية المقبلة بصفتها نتاجاً حقيقياً للتفاعل ما بين الآلة والآلة، وما بينها وبين البشر، وفي مرحلةٍ ما، خلال السنوات المقبلة، ستتجاوز الآلات الذكية القدرات البشرية في تكوين المعرفة العملية للحضارة الإنسانية واكتسابها وتطبيقها، بينما يبقى دور الإنسان في التميز بما يسمى المعرفة الضمنية، التي ستكون مفتاح الابتكار، وتتطلَّب قدرات لتوظيف الأفكار وإخراجها إلى حيز الواقع، عبر مهارات البحث والتحليل والإدراك والتطوير.
والمتابع لتاريخ العلم، يلحظ ازدياد دور التكنولوجيا في تكوين المعرفة بصورة متسارعة، خصوصاً منذ منتصف القرن العشرين؛ وهو ما أكده الفيلسوف الأميركي ريتشارد فولر، في كتابه المؤثر «المسار الحرج» الصادر عام 1982، الذي قدم خلاله مؤشر «منحنى مضاعفة المعرفة»؛ فقد لاحظ أنه حتى عام 1900 كانت المعرفة البشرية تتضاعف كل قرن تقريباً؛ وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت المعرفة تتضاعف كل 25 عاماً. لكن قياس نمو المعرفة على النهج نفسه اليوم ليس بالأمر اليسير، وسيكون أكثر تعقيداً في المستقبل؛ فكل فرع من فروع المعرفة يملك معدل نمو يختلف عن غيره، فعلى سبيل المثال تتضاعف المعرفة في تكنولوجيا النانو كل 24 شهراً، بينما هي 18 شهراً تقريباً في المعارف الطبية والصحية، وفي المتوسط؛ فإن المعرفة في مجالاتها كافة تتضاعف حالياً كل 13 شهراً، ولكن مع ثورة المعرفة؛ فإن تكامل الذكاء الاصطناعي مع غيره من التكنولوجيات، كإنترنت الأشياء، سيؤدي بالضرورة إلى مضاعفة المعرفة كل 12 ساعة، وفقاً لتقديرات شركة «آي. بي. إم» الأميركية العملاقة، وهي معدلات مهولة بكل المقاييس ستستدعي بالتأكيد تفاعل الآلة الذكية مع غيرها، لاستيعاب الكمّ الهائل من المعرفة المكتسبة في أشكالها كافة وتحليلها وتسخيرها، وبشكل عام يعتمد العالم بشكل رئيسي على ستة مسارات تكنولوجية من أجل خلق زخم الثورة المعرفية، وهي الإلكترونيات الدقيقة التي تشكل أسس تكنولوجيا المعلومات، وتكنولوجيا المواد المتقدمة، كالغرافين والبوليمرات والمواد الفائقة التوصيل وغيرها، والتكنولوجيات الحيوية، ولا سيما في علوم الجينات والوراثة واللقاحات، وتكنولوجيات الفضاء ونظم الدفع، وتكنولوجيات الطاقة، وتكنولوجيا النانو، وكل هذه التقنيات مترابطة متعددة الأغراض، وتشكل جميعها أسس الابتكار والإنتاج.

أهمية الاستثمار في ثورة المعرفة
يتطلَّب الاستثمار في المعرفة اعتماد نهج جريء يخلو من قيود التقليد النمطية، والتزاماً طويل الأمد يعمل بصفته قوةً دافعةً مستمرةً في تحفيز البيئات الابتكارية التنافسية، التي تتماشى بنجاح مع التغيرات التقنية المتلاحقة، وإذا نظرنا في الزمن قليلاً إلى الوراء؛ فقد كان عمالقة الإنترنت والتكنولوجيا في وادي السيليكون الأميركي أول من قدموا إسهامات جريئة وحاسمة جعلت تحول العالم إلى الاقتصاد المعرفي أمراً ملموساً؛ فجميعهم بدأوا بصفتهم مشروعات ريادية صغيرة جداً، لكن أغلبها لا يزال ناجحاً اليوم مع تجاوز قيمة بعضها حاجز التريليون دولار أميركي، ويعزى السبب الكبير في نجاح هذه الشركات إلى تبنيها ثقافة الابتكار، واستعدادها الدائم لتحدي نماذج الأعمال التقليدية، وإجراء التغييرات المؤلمة أحياناً لمواكبة التطورات المعرفية المتسارعة، وأدركت هذه الشركات مبكراً كذلك أنها لا يمكنها، ولا يجب عليها، فعل كل شيء بنفسها؛ ولهذا استثمرت بكثافة في الشركات التقنية الأخرى الناشئة، بشكل أتاح لها دمج المعرفة المكتسَبة مع ما لديها؛ لتنجح باستمرار في مواكبة تحولات السوق واحتياجات الأفراد المتغيّرة، ولننظر إلى مثال آخر؛ فمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية، الذي تم تأسيسه عام 1861، لا يزال رائداً في تشجيع الباحثين والمبتكرين على تخطّي الحدود المؤسسية التقليدية، وتجاوز حدود تخصصاتهم في العمل على مشروعات استثمارية مع القطاع الخاص والمؤسسات البحثية الأخرى الرائدة؛ وهو ما أسفر عن تأسيس آلاف من الشراكات التي أسهمت بشكل مؤثر في بناء اقتصاد معرفي قوي ومميز للولايات المتحدة الأميركية، وتعمل حالياً أكثر من 800 شركة مع باحثي المعهد؛ حيث بلغت قيمة البحوث التي ترعاها الصناعة بشكل مباشر ما يربو على 180 مليون دولار، أو ما يعادل 23% من إجمالي نفقات البحث العلمي للمعهد في عام 2019، وفي العام نفسه تقدم المعهد بنحو 430 براءة اختراع جديدة، وتم تشكيل 25 شركة رائدة باستخدام الملكيات الفكرية للمعهد، وحصل على ما يقارب 34 مليون دولار في صورة إيرادات ترخيص استخدام لبراءات اختراعاته وحقوقه الفكرية في منتجات غيره، كل هذه الأرقام جاءت انعكاساً لاستراتيجية واضحة تهدف إلى الاستثمار في الباحثين العلميين لخلق المعرفة وتسخيرها للتقدم والنمو، وبالفعل تؤكد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أنه يمكن تفسير ثلث الفجوة في الإنتاجية بنقص الاستثمار في رأس المال البشري القائم على العلم والمعرفة، وهو المسؤول عن إنتاج ما يسمى الأصول غير الملموسة، التي تشمل مجموعة واسعة من نتاجات المعرفة المختلفة كالملكية الفكرية، وبراءات الاختراع، والابتكارات، والعلامات التجارية، والمنتجات الإبداعية، والبرمجيات، والحلول التقنية، والتصاميم، وغيرها؛ ولذلك فإن أفضل استثمار نراه في المعرفة هو في التعليم من أجل خلق أفراد تتزايد أهميتهم يوماً بعد آخر بصفتهم مصدراً للإنتاجية والنمو الاقتصادي.
وبالتالي سيكون الاستثمار في الكفاءات البشرية، بالإضافة إلى التقنيات الحديثة، من أهم الأولويات في عالم المستقبل؛ حيث سيصبح توفير ذوي المهارات القادرة على الابتكار، ومواكبة التحولات التقنية المتسارعة، معضلة لقطاعات حيوية كثيرة، ولهذا السبب وغيره تتجه اليوم كثير من الدول إلى التركيز على تعزيز محو الأمية الرقمية، ضمن القوى العاملة لديها، لكن مع إيلائها أولوية قصوى لاستراتيجيات التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، التي تشكل بمجملها رأس المال البشري ذا القيمة الأعلى، وعصب ثورة المعرفة القادر على الإسهام في صناعة كل أشكال المعرفة المتقدمة واستيعابها مستقبلاً.

رؤية الإمارات المبكرة لأهمية المعرفة والتكنولوجيا
يتجلَّى اهتمام دولة الإمارات العربية المتحدة بأسس المعرفة منذ نشأتها الأولى؛ فلا تزال رؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، لأهمية بناء معرفة المستقبل، وصناعتها حاضرة في أذهاننا، عندما قال «رحمه الله»: «إن تعليم الناس وتثقيفهم في حدّ ذاته ثروة كبيرة نعتز بها؛ فالعلم ثروة؛ ونحن نبني المستقبل على أساس علمي». وبالفعل؛ فإن التعليم مهد المعرفة، وبه تسبر أغوار المستقبل، وتزداد معه المجتمعات تقدماً وتطوراً، وحققت الدولة تحت قيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة «حفظه الله»، وتبعاً لنهج مؤسسها وإخوانه مشيّدي صرح الاتحاد، إنجازات في المعرفة تجاوزت بها دولاً ذات تاريخ أطول وموارد أكبر، وتجلى ذلك في تميز الدولة بنموذج فريد من نوعه حول العالم، يقوم على الترحيب بالمعرفة وتوظيفها والاستثمار فيها، وتمكين الإنسان فيها من تطويع الإبداع ومهارات التفكير خارج القوالب النمطية؛ عبر التعلم والتدريب المتقدم، وتشجيع المؤسسات على المخاطرة المدروسة كطريق لخلق معرفة جديدة ومتميزة، ويدل كذلك على هذا النهج تأكيد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، «حفظه الله»، عندما قال: «إننا نريد من أبنائنا وطلابنا أن يتعلموا أفضل التقنيات في العالم؛ ليس أمامنا خيار إلا الاعتماد على النوعية؛ وسلاحنا الحقيقي هو العلم، ونريد أن ننافس بكم دول العالم؛ فطموحنا أن ننافس دول العالم المتقدمة التي حققت نجاحات في التنمية البشرية والتعليم والاقتصاد، مثل فنلندا، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة»؛ وذلك في كلمة سموه ضمن فعاليات «مجلس محمد بن زايد لأجيال المستقبل»، في مارس 2017، وما تقدَّم يظهر من دون شك عمق هذه النظرة الحكيمة من قيادة الدولة الرشيدة، التي تؤكد أن دولة الإمارات العربية المتحدة لا تنتظر المستقبل، بل اختارت الاستثمار من اليوم في الإنسان وفي العلوم المتقدمة؛ لضمان النجاح في ثورة المعرفة، التي سيكون التميز فيها أساساً لمواجهة تحديات عالم الغد.
ويظهر واقع نجاح دولة الإمارات العربية المتحدة في مجالات المعرفة، بتصدُّرها مؤشر الابتكار العالمي على المستوى العربي لعام 2019، وتقدمها إلى المركز السادس والثلاثين عالمياً، ويُعَدُّ الابتكار خصوصاً أحد أهم أوجه ثورة المعرفة لدى الدول؛ إذ تتسابق عبره لإثبات علوّ شأن علومها وتعليمها وإمكانياتها التقنية، وقد احتلت دولة الإمارات العربية المتحدة كذلك المرتبة الخامسة عالمياً في الترتيب العام في «جاهزية التغير»؛ بحسب تقرير صدر عام 2019 عن مجموعة KPMG، إحدى كبرى شركات الاستشارات والتدقيق العالمية، وهذا المؤشر مهم للغاية؛ حيث يبرِز نتائج سياسات الدول المرتبطة بمرونة الاستجابة، والاستعداد لأحداث التغيير الكبرى، وكفاءة التعامل مع تحدياتها، بل الاستفادة منها لبناء اقتصادات معرفية تنافسية ومستدامة.
وخير دليل على هذه المكانة، التي وصلت إليها دولة الإمارات العربية المتحدة في مجالات الابتكار، ما تم تطويره حديثاً في الدولة من حلول تقنية متقدمة في مواجهة تداعيات فيروس كورونا؛ فقد أعلن، على سبيل المثال، مركز أبوظبي للخلايا الجذعية تقنية متقدمة تدعم علاج حالات الإصابة بالفيروس، وتعدُّ من أولى التقنيات من نوعها عالمياً، ومؤخراً كذلك تم ابتكار نظام يعتمد الليزر والذكاء الاصطناعي المتقدم، ويتيح إجراء فحوص جماعية خلال ثوانٍ؛ ما سيشكل نقلة نوعية في وقف انتشار الفيروس، وهذه الابتكارات وغيرها تشير بكل وضوح إلى مدى التطور العلمي، الذي وصلت إليه الإمارات وقدراتها الكبيرة على توظيف المعرفة المتقدمة لتجاوز أصعب التحديات.
وتسبق دولة الإمارات العربية المتحدة العالم في تسجيل ريادة متقدمة، ضمن أركان المعرفة القائمة على الابتكار والتقنية؛ فقد كانت أول دولة تنشئ وزارة للذكاء الاصطناعي عام 2017، وهي صاحبة الاستراتيجية الوطنية الوحيدة للذكاء الاصطناعي في العالم، وقد أعلنها في العام نفسه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، وتفخر دولة الإمارات العربية المتحدة كذلك بصياغتها أول استراتيجية من نوعها للابتكار المتقدّم عام 2018، وكذلك استراتيجية متقدمة للتعاملات الرقمية (البلوك تشين) عام 2018، وغيرها من الاستراتيجيات التي تمهد دخول دولة الإمارات العربية المتحدة ثورة المعرفة بكل قوة.
ولأن التعليم يعَدُّ حجر زاوية في التقدم المعرفي؛ فإن حكومة الإمارات تعطي أهمية قصوى لتضمين التكنولوجيات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي ضمن مناهجها الدراسية؛ لتكون من أولى الدول بالعالم في تدريس مثل هذه الموضوعات مع حلول عام 2021. وتركيز دولة الإمارات العربية المتحدة على التعليم المتقدم واضح تماماً، وتمثَّل نموذج منه في إعلان أول جامعة في العالم للذكاء الاصطناعي، تشرَّفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان «حفظه الله»؛ لتسهم في ترجمة فكر سموه الداعي إلى تنمية رأس المال البشري، عبر التفكير العلمي والمعرفة، بصفتها أداةً للتقدم الاجتماعي، ووسيلةً للتوجُّه بدولة الإمارات العربية المتحدة نحو مستقبل أفضل.