ما زال هذا الوباء العالمي لم يضع أوزاره بعد. وفي إبان مجرياته ومتغيراته نؤكد على أن الثابت الذي لا مرية فيه أن الحفاظ على النفس البشرية واجب ديني مقدس لا تنازل عنه. وقد جاءت الأحكام الشرعية بكلياتها وفروعها لتُراعِي حاجةَ المكلف ومصلحتَه وحفظَ نَوْعِه، فَمَبْنى ديننا الإسلامي الحنيف على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فهو رَحْمَة كله، ومصالح كله، وَحِكْمَة كله، وكل مَسْأَلَة خرجت من الرَّحْمَة إِلَى ضدها، وَعَن الْمصلحَة إِلَى الْمفْسدَة، وَعَن الْحِكْمَة إِلَى الْعَبَث فليستْ من هذا الدين في شيء، ومن هنا كان مقصد التيسير في ديننا مدعاة للفهم والاعتبار، قال الإمام مالك في «الموطأ»: «ودين الله يُسْرٌ»، وما قالها إلا بعد استقراء للنصوص والقواعد التي تدل دلالة قطعية على أن التيسير من مقاصد الشريعة.
إن تقرير يُسْرَ هذا الدين من المهمات الكبرى، والراسيات الرواسخ، وينبغي استحضار هذا المقصد في ظل هذه الظروف، لا سيما في ما يختص بأمور عباداتنا وديننا، التي يصعب على بعض الناس فيها تصديق تعليق الصلاة في المساجد، أو يستثقل التعليمات –خاصة المتعلقة بتنظيم الشأن الديني- ويضجر منها، أو يستعجل العودة إلى ممارسة الشعائر وفق ما كانت عليه الأوضاع قبل هذه الجائحة، فيجدر بكل واحد منا أن يحكم هذه المشاعر من خلال استصحاب التيسير في الدين، ويعلم أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تَحُضُّنا على الحفاظ على الأنفس والأرواح، وذلك ليس من التساهل في الدين، بل هو من العزائم والتيسير، فكلما ضاق الأمر اتسع، وهذه الجائحة قد ضيقت كثيرا مما كان واسعا، فلا نزاحمها ونغالبها ونشادها، فلن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، بل نسلك مسلك التيسير والسماحة، ونؤدي عباداتنا في بيوتنا آمنين على أنفسنا، مطمئنين على أهلينا، ناشرين السكينة في محيطنا، فائزين برضا ربنا وخالقنا بإذن الله تعالى.
فقد كان بنو سلمة وهم حي من أحياء المدينة المنورة، يرغبون في الصلاة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وحضور صلاة الجماعة معه، لما لكل ذلك من الفضل وزيادة الأجر، فقرروا بيع بيوتهم والقرب من المسجد النبوي، وعَلِم النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك شاق عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المسْجِدِ، قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ) أي: فالزموا دياركم تكتب أجوركم وتضاعف حسناتكم، ولا شك أن بقاءهم في ديارهم البعيدة عن المسجد النبوي يحصل فيه فوت الجمعة والجماعات، ولكن في بقائهم ذلك مصالح وفوائد وعوائد أخرى معتبرة شرعا، تعود عليهم في دينهم ودنياهم وتُحَقِّق مصالحهم.
كما يجب أن ندرك يقينًا أن قرار إعادة فتح المساجد أو الاستمرار في تعليقها مناط بجهات رسمية معتبرة، يجب الوثوق بقرارها، لشموله على معطيات موثوقة، ونتائج مفترضة لكل مسار متبع، فلكل دولة في هذه الأزمة حيثياتها المعتبرة، ومعاييرها المنضبطة التي تقرر بناءً عليها فتح المساجد أو تعليقها، أو التخفيف من القيود أو زيادتها، وعلى كل فرد في كل مجتمع أن يثق بقرارات مؤسساته، ويستجيب لها، إذ في ذلك رضا الله تعالى، فإن الله تعالى قد رَفَع عنا الحرج، ويُحبُّ منا أن نأتي رخصه، ونختار أيسر الأمور، وخير الدين أيسره، وأن نسمع ونطيع لمن ولّاه الله أمرنا.
إن سلوك مسلك التعسير والتشديد «يحسنه كل أحد»، ويؤدي إلى الإضرار بالنفس وبالآخرين، وتحميلها ما لا تطيقه، وانقطاعها عن مواصلة دروب الحياة، وأخطر من ذلك أن هذا المسلك هو أحد الطرق المعبدة إلى التطرف، والإخلال بمنظومة العمل في الحياة، فالمضار منفية عن الشريعة، وفطرة الإنسان السليمة تختار الأيسر، وفي كثير من الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا» فكان حرصه صلى الله عليه وسلم على تجنيب المسلمين المشاق في كلّ شيء، مما يدل على أن الأصل في أمور الدين كلها هو التيسير.
*المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف