يختزل الفتى الثلاثيني نبيل القعيطي كل القضية الجنوبية وأبعادها، فهو من جيل الوحدة اليمنية التي ما زالت حلماً في الذهنية العربية التي استفاقت على نبأ مقتل صحفي أمام بيته في مدينة عدن، وهي المدينة التي بدورها عاشت متفردة الواقعية السياسية بما احتملته من الصراع السياسي الإقليمي والعالمي تاريخياً.
واقع عدن بعد أن فرضت صنعاء احتلالها بقوة السلاح في حرب صيف عام 1994 هو الذي نشأ فيه نبيل القعيطي كالآلاف من أبناء الجنوب، فالكل يشعر بأنه مواطن من الدرجة العاشرة، والكل يرى آثار الدمار والخراب في شوارع المدن الجنوبية، والكل يشعر بغصة بأن يرى ثروات النفط والمعادن وإيرادات الموانئ تذهب إلى المتنفذين في صنعاء وما حولها.
لم تُقدم دولة الوحدة المدارس والمستشفيات والطرق، بل قدمت عوضاً عن ذلك الفقر والبطالة والتهميش لجيل أبدى إعجابه بالوحدة التي يتغنى بها العرب من محيطهم إلى خليجهم دون أن يشعروا بأن جوعاً يعتصر البطون وقهراً يتزايد في النفوس، هناك في عدن والجنوب كان بركاناً يتفاعل في خلايا كل جنوبي داخل اليمن وفي المهاجِر، فالكل كان يعيش المرارة، ويتقاسم القهر الذي يزداد عندما يرى عربياً يُزايد على وحدة اليمن إرضاء لرغباته.
الجنوبيون خاضوا معركة فريدة من نوعها فعندما اشتد الحراك الجنوبي السلمي في عام 2007 كان على الجنوبيين أن ينشروا صور حشودهم في معركة غير متوازنة مع نظام صنعاء الذي كان مسيطراً على وسائل الإعلام، وكان بعض الإعلام العربي الذي يقتات على ما يمنحه لهم علي صالح من مال مصطفاً مع الجلاد ضد الضحية، فخرجت الاتهامات لكل ما هو جنوبي وكأن الوحدة العربية قائمة وهذا الجنوب يريد التقسيم للوطن العربي.
في ساحات الحراك الجنوبي على امتداد الجغرافيا الجنوبية، ومن حيث لم تدرك صنعاء، كان يتخلق المارد الجنوبي، فالهتافات والشعارات في مليونيات الحراك الجنوبي كانت تمثل المخزون المعنوي الذي كان يحتاجه الجنوبيون في طريق نضالهم الوطني مع كل التعقيدات في مشهد ازداد تعقيداً بعد أن عاد الصراع في داخل البيت الزيدي بين أبناء القبيلة والمذهب حتى انقلب «الحوثي» على أشقائه ودخل صنعاء من دون أن يطلقوا عليه رصاصة، بل لبسوا عباءات نسائهم وهربوا.
نبيل القعيطي كمئات الآلاف انخرطوا في الحراك الجنوبي السلمي، شاهدوا أشقاءهم يقتلون ويعتقلون وأطقم الأمن تطلق الرصاص الحي وتدهسهم، حمل نبيل كاميرته وأخذ يلتقط صور القتلى والمعتقلين، ويرصد صورة لعلم الجنوب يرفرف في سماء عدن على أجساد مثخنة بالجراح، كانت تلك الصور في أعوام 2006 و2007 تمثل واقعية المأساة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الإعلامية.
ككل الجنوبيين، التحق نبيل القعيطي بعملية «عاصفة الحزم» ليوثق واحدة من ملاحم العرب الكبرى بتحرير عدن وقطع اليد الإيرانية. ومع قوات التحالف، سار قدماً بقدم ليوثق تحرير سد مأرب ورفع الرايات العربية عليه، ليؤكد أنه مع عروبة هذا اليمن، حتى وإنْ جحد من أهله من جحد.
عاد نبيل يسير مع تحرير باب المندب، وكان في الصفوف الأولى مرافقاً للقوة الإماراتية وألوية العمالقة وهي تزحف على امتداد الساحل الغربي حتى أبواب مدينة الحديدة، لم تنته المهمة، فرصد بعدسته هزيمة ميليشيات «حزب الإصلاح» الإرهابي في أبين على تخوم عدن التي كان هو ورفاقه نجوم تحريرها في أغسطس 2019 بتوثيق طرد الميليشيات وكشف أقنعة المتسترين بالشرعية.
رحل نبيل القعيطي يوم 2 يونيو الجاري، بطلقات غادرة أمام منزله، لكنه رحل كما رحل من قبله عمر المختار شهيداً خالداً أبد الدهر. الإعلام العربي خذل نبيل حياً وميتاً، ومع ذلك سيظل خالداً في الذاكرة، كالراية التي حملها حباً في حياته، وسلّمها أمانةً لابنه زايد، ليحملها مع كاميرته فخراً واعتزازاً في وجه الشر والتكفير الزاحف من شمال اليمن.
*كاتب يمني