أثار انتخاب باراك أوباما رئيساً لأميركا(2008) قضية السُّود، حتى إن العراقيين منهم أسسوا «جمعية أنصار الحرية»، أسسها جلال ذياب (اغتيل2013)، ولم يُغتل لموقف عنصري، إنما لأنه أحد النشطاء المدنيين الذين يعتبرهم الإسلاميون أعداءً. أما اليوم فأثار قتل الأميركي جورج فلويد بيد شرطي أبيض في 25 مايو الماضي، العنصرية بشكل معاكس، فقبول البيض برئيس أسود غير قتل أسود بيد أبيض، فإذا أبعدَ انتخاب أوباما العنصرية إلى الماضي، استقدمها مقتل فلويد إلى الحاضر.
كانت العبودية نظاماً عالمياً، والعبيد مِن البيض كانوا الأكثر، لكن لم تستمر العنصرية مع الرَّقيق البيض حال تحررهم، إنما استمرت مع السود، بسبب اللَّون، مع أن ملوك أفريقيا وحكامهم الأوائل لديهم عبيد مِن جلدتهم، وبيض أيضاً. كذلك كان لقادة ثورة الزّنج بالبصرة (255-270 هجرية) رقيق، ولم يضعوا في بالهم إلغاء العبودية، لأنها كانت مرحلة اقتصادية لا يمكن تجاوزها، فعبيد اليونان مِن اليونان، وعبيد العبرانيين من العبرانيين، والأديان تعاملت مع وجود العبودية، ولن تتجاوزها، لكن التَّشديد على العتق في الإسلام فهمه عبد الرَّحمن الكواكبي(1902) على أنه التحرير التدريجي(الكواكبي، الأعمال الكاملة).
أبرز مَن صنف في شأن السُّود، منتصراً لهم، عمرو بن بحر الجاحظ (ت255 هجرية)، في «فخر السودان على البيضان)، والجاحظ كان منهم (أثر السود في الحضارة الإسلاميَّة)، وصنف عبدالله الناشئ (293هجرية)« تفضيل السود على البيض» (وردت في مصادر عدة)، ثم ألف منتصراً لهم ابن المرزبان(309هجرية)، نفهم ذلك من العنوان:«السودان وفضلهم على البيضان» (الكتابان مفقودان)، وبعد حين صنف ابن الجوزي (597هجرية)«تنوير الغبش في فضل السودان والحبش». ألغى الجاحظ في رسالته المذكورة، فكرة أن تكون قصة حام مع أبيه أصل السود وعبوديتهم، بل عزى ذلك للمناخ، ثم أكده إخوان الصفا(الرابع الهجري)، وابن الجوزي، وابن خلدون (ت808 هجرية).
حكم بالعالم الإسلامي ملوكٌ وأمراء سُود، بعد عتقهم، مثل كافور الأخشيدي (307 هجرية) حكم مصر(ابن تغرى بردى، النجوم الزَّاهرة)، وآل نجاح حكموا باليمن(الخامس الهجري) بعد آل زياد(اليمني، المفيد، في أخبار صنعاء وزبيد). حكم هؤلاء، وامتلكوا رقيقاً مِن السُّود والبيض، ولم يُثار ضدهم بسبب اللَّون، إنما المنافسة على الحُكم.
كانت أوروبا وأميركا السباقة إلى إلغاء العبودية، وفق تشريعات. ألغتها بريطانيا(1833)، وعدم التَّعامل مع أيّ دولة تقر نظام العبودية، لذا اضطرت البلدان التي تربطها مصالح مع بريطانيا إلى إلغاء الرِّق، مع اعتبار الفقهاء ذلك ضد الشَّريعة.
ما يلفت النَّظر، أن ما ركزت عليه الجمعيات البريطانية مِن الأخوة الإنسانية، كتهيئة لإلغاء العبودية، كان مطروحاً كمقولات، فإذا جاء في «وثيقة لندن الجماعية»(1783):«قضية رفاقنا في الخليقة: الأفارقة المقموعين»(ديلبيانو، العبودية في العصر الحديث)، ورد في رسالة للخليفة علي بن أبي طالب(40 هجرية):«لا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنِّهم صنفان: إما أخ لك في الدِّين، وإما نظير لك في الخّلق»،(كتابه إلى والي مصر). نقول إن التفكير بالمساوة بين البشر لا يختص بدين ولا ثقافة، ولا زمن.
انتهت العبودية، وظلت العنصرية، فأميركا استمر فيها التمييز العنصري ضد السُّود لمائة عام، بعد قرار إلغاء العبودية (1865-1962)، بسبب اللَّون وماضي العبودية الطويل. كذلك مازال التكافؤ في الزواج ثقافة قائمة، بوجود رسائل فقهية يُكره فيها التزويج مِن شرائح مختلفة، وأتوا بأحاديث ضدها، كذبها ابن قيم الجوزية(751هجرية):«أحاديث الحبشة والسُّودان كلها كذب»(المنار المنيف).
ذهبت العبودية كنظام وظلت عنصرية كعرف، لكن ما يخص مقتل فلويد، جريمة سببها المباشر ليس العنصرية، فكم مِن أبيض قُتل برصاص الشّرطة البيض، وكم مِن الشّرطة وقادتها هم مِن السُّود؟! إلا أن الحسابات السِّياسية، وقضية الانتخابات الأميركية، فتحت الملف بشخص الضَّحية، فما بين انتخاب أوباما ومقتل فلويد، مزاجان مختلفان، وليس أشهر مِما نحته المتنبي(354 هجرية):«بذا قَضت الأيّامُ ما بَينَ أهلِها/مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قومٍ فَوائدُ»(عواذل ذات الخال/ الدِّيوان، شرح أبي البقاء)! حصلت القضية بين قاتل وضحية، لا بين بيضٍ وسُودٍ.