يواجه صندوق النقد الدولي في مفاوضاته مع لبنان، مشكلة نقدية معقدة، حيث تشهد السوق المالية تداول 6 أسعار لصرف الليرة مقابل الدولار الأميركي هي: 1507.5 ليرات سعر الدولار الرسمي، و3000 ليرة سعر دولار المصارف التجارية لاحتساب ودائع الزبائن، و3200 ليرة سعر دولار التحويلات الإلكترونية الخارجية بوساطة الشركات المالية، و3900 ليرة سعر دولار نقابة الصيارفة بالتنسيق مع مصرف لبنان، و4600 ليرة سعر دولار الصيارفة في السوق السوداء، و5000 ليرة سعر دولار التجار باحتساب أسعار مبيعاتهم ومختلف الخدمات، وتبقى كل الأسعار خاضعة للتغيير بين لحظة وأخرى، وفق تأثير تطبيق قانون قيصر الأميركي وتداعياته السلبية.
ويعكس التفاوت الكبير بالأسعار، حدة الخلافات السياسية القائمة بين أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة، وكذلك مطالب المجتمع المدني الذي يشارك بثورة الشباب التي اندلعت في 17 أكتوبر الماضي، ضد الفساد والجوع والفقر، وهي مستمرة حتى اليوم.
وإذا كان الفريق اللبناني المفاوض استطاع مبدئياً توحيد أرقام الفجوة المالية، نتيجة التنسيق بين وزارة المال وحاكمية مصرف لبنان، برعاية السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتفيذية (الحكومة) تمهيداً لإبلاغها للصندوق، فإن الخلاف لا يزال كبيراً حول تحقيق الهدف النقدي بتوحيد سعر صرف الليرة و«تعويمه»، بما يؤدي إلى توفير الاستقرار المالي والمصرفي، ويسهم في جذب الاستثمارات والأموال الخارجية، لحل مشكلة العجز الكبير في ميزان المدفوعات.
وفي الوقت الذي وصف فيه البنك الدولي أزمة لبنان بـ«الكارثة المالية»، منتقداً «التلكؤ» في الاستجابة لاحتواء هذه الكارثة من قبل الحكومة، ومطالباً بضرورة اعتماد «استراتيجية موثوقة» لمواجهة سلسلة أزمات من خلال عدة أبعاد خارجية، يلاحظ أن صندوق النقد توقع أن تطول المفاوضات، نظراً لما تتسم به التحديات التي تواجهها من التعقيد والتداخل بدرجة عالية، ويرى جيري رايس، المتحدث بأسم الصندوق، أن المعالجة تقتضي إعداد التشخيص الصحيح، وإجراء إصلاحات شاملة، والمثابرة في التنفيذ، وهذا يستدعي التركيز على قوة شعور الحكومة بملكيتها لبرنامجها، ودعمها له في طرفي الطيف السياسي والمجتمع المدني في لبنان، وقد فسر بعض المراقبين موقف الصندوق بأنه يعول على رأي «الثورة» في أي خطة إنقاذ، مع موافقة طرفي الطيف السياسي، وهو يتمسك بتحرير سعر صرف الليرة، فهل ينجح في تحقيق هذا الهدف، كما نجح في مصر بـ«تعويم سعر الجنيه»؟
لقد حصلت مصر على 12 مليار دولار من الصندوق على مدى ثلاث سنوات، تمكنت خلالها من تطبيق خطة التعويم وتداعياتها بنجاح كبير، حيث أنقذت اقتصادها وتضاعف احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة إلى أكثر من 43 مليار دولار، لكن يبدو بشكل واضح أن التجربة المصرية قد تتفق مع الوضع اللبناني لجهة الهدف بـ«تعويم» النقد، إلا أنها تختلف اختلافاً كبيراً لجهة وحدة الموقف، فضلاً عن تشخيص الأزمة اللبنانية، ومعالجتها في ظل التطورات السياسية الإقليمية والدولية المتداخلة، هذا مع العلم أن تقاذف «كرة» الخسائر والمسؤولية بين ثلاثي الدولة والبنك المركزي والجهاز المصرفي، حرف بوصلة الإنقاذ عن الاتجاه المنشود.
ورغم أن سياسة «تثبيت» السعر وفّرت الاستقرار المالي والنقدي طوال أكثر من 25 سنة، فإن العودة إليها تواجه معارضة كبيرة، وفي حين يؤكد صندوق النقد ضرورة اعتماد السعر «المعوم»، تتمسك وزارة المالية باعتماد السعر «المرن» مع هامش محدد للصعود والهبوط، مع العلم أن الخطة الاقتصادية للحكومة، تستند إلى سعر صرف 3500 ليرة للدولار، على أن يرتفع بشكل تدريجي إلى 4297 ليرة في عام 2024، لكن يبقى السؤال: ما هو السعر الحقيقي الذي تستطيع الحكومة الدفاع عنه؟.. إنه التحدي الكبير لإنقاذ الاقتصاد المتدهور، وحماية الليرة من تداعيات المزيد من الانهيار.

*كاتب لبناني
 
  • دولار لبنان.. و«الكارثة» المالية
    354x211
    614.17KB