يعرف البعض قصة الدكتور «مارتن لوثر كينج» الشهير. ففي 28 أغسطس 1963، اجتمع 250000 شخص من كل أنحاء الولايات المتحدة الأميركية في ساحة المتنزه الوطني في واشنطن العاصمة، لكي يستمعوا إلى ما ستجود به قريحة كينج في خطابه «لدي حلم». وللذاكرة فإنه في ستينيات القرن الماضي لم تكن هناك شبكة الإنترنت ولم يرسل المنظمون 250000 بطاقة دعوة، لكن الرجل استطاع أن يجلب كل هذه الحشود في يوم محدد لأنه كان ملهِماً ويحظى بالثقة.
نعلم أنه في تلك الفترة، كانت أميركا مرتعاً للفتن، وبالأخص ما تعلق بالتوترات العرقية وعدم المساواة والميز العنصري الحاد. لم يكن الدكتور كينج الأميركي الوحيد الذي كان يؤمن بالمساواة ولا كان الوحيد الذي يفهم ما يجب تغييره في الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية.. بل كانت لديه أفكار شبيهة بأفكار آخرين يملكون نفس القناعات التي تسوي ولا تميز، تجمع ولا تفرق، لكن خلافاً للأغلبية كان لكينج وضوح في الغاية (لماذا؟)، وكان لديه شعور بالغرض.
وفي هذا المخاض متعدد الجوانب، كان كينج موهوباً بل عبقرياً. لقد تحدث عن الفكرة التي اعتنقها بلسان قل نظيره وبكلمات جامعة شاملة ألهمت الجميع: «أنا أؤمن.. أنا أؤمن.. أنا أؤمن». وأضاف: «يوجد نوعان من القوانين، قوانين عادلة وقوانين غير عادلة. القانون العادل هو تشريع من وضع الإنسان ينسجم مع القانون الأخلاقي. والقانون غير العادل هو تشريع لا ينسجم مع القانون الأخلاقي. وأي قانون يعلي شأن الإنسان هو قانون عادل، وأي قانون يحط من شأنه هو قانون غير عادل، وقوانين الفصل العنصري جميعها غير عادلة، لأن التمييز يشوه الروح ويدمر شخصية الإنسان». كان هذا إيمان كينج هذا كان أكبر من حركة الحقوق المدنية التي كانت معروفة آنذاك في أميركا، وكانت كلماته تطبق على الجميع وكيف يجب أن يعامل كل فرد منا الآخر.
كلمات كينج كانت هي الفكرة التي يؤمن بها الحضور أصلاً، وكانت وسيلة تذكير وإيقاظ للهمم. لقد ألقى خطاب «لدي حلم» وليس خطاب «لدي خطة». سمع الناس بمبادئ كينج ولامست كلماته الأماكن الدفينة في قلوبهم. تبناها الحضور وأحبوها لأنهم آمنوا بها، ونقلوها إلى الجميع فأصبحت وطنية بامتياز.
أسرد هذه القصة التاريخية وأنا أتابع ما تبنته ولاية نيويورك الأميركية هذه الأيام من قوانين ترمي إلى وضع حد لعنف الشرطة بحق الأقلية ذات الأصول الأفريقية، ويأتي ذلك على خلفية المظاهرات العاتية التي اجتاحت الولايات المتحدة للتنديد بالعنصرية وعنف الشرطة في أعقاب مقتل جورج فلويد أثناء عملية اعتقاله. وفي مؤتمر صحفي، وقّع حاكم ‬ولاية ‬نيويورك ‬أندرو ‬كومو، ‬على ‬عشرة ‬نصوص ‬أقرها ‬هذا ‬الأسبوع ‬برلمان ‬الولاية ‬بغرفتيه، ‬وتهدف ‬هذه ‬القوانين ‬الجديدة ‬إلى ‬وضع ‬حد ‬لعنف ‬الشرطة ‬بحق ‬ذوي ‬الأصول ‬الأفريقية، ‬ومن ‬بين ‬هذه ‬النصوص ‬منع «‬الخنق» ‬أثناء ‬الاعتقال، ‬ومادة ‬تنص على ‬أن أي ‬وثيقة ‬تخص التقييم ‬المهني ‬لعناصر ‬الشرطة، ‬ومن ‬بينها ‬التدابير ‬التأديبية ‬المتّخذة ‬بحقهم، ‬تبقى «‬سرّية» ‬ولا ‬تُكشف ‬سوى ‬بأمر ‬قضائي. لكن ‬من ‬الآن ‬فصاعداً، ‬صار ‬يمكن ‬لعامة ‬الناس، ‬لا ‬سيما ‬الصحافيين، ‬الإطلاع ‬على ‬تلك ‬الوثائق ‬عبر ‬استعمال ‬القوانين ‬الأميركية ‬حول ‬حرية ‬المعلومات. ‬وكشفت ‬في ‬هذا ‬السياق ‬شرطة ‬مينيابوليس ‬أن الشرطي ‬ديريك ‬شوفين ‬الذي ‬خنق ‬فلويد ‬برقبته ‬في ‬25 ‬مايو الماضي، ‬رُفعت ‬بحقه ‬18 ‬شكوى ‬تتعلّق ‬بسوء ‬معاملة ‬على ‬امتداد ‬نحو ‬20 ‬عاماً، ‬ولم ‬تُكشف ‬تفاصيل ‬تلك ‬الشكاوى.
لكن هل هذه القوانين كافية؟ أظن أن الأميركيين ما زالوا ينتظرون سماع كلمات صادقة وتنزيلات حقيقية يتبناها الجميع ويؤمن بها الجميع كما جاء في خطاب كينج الشهير لسنة 1963، وبذلك فكل واحد سيشارك الآخر في مجموعة من القيم والمبادئ بغض النظر عن لون البشرة أو الانتماء الاجتماعي أو السياسي.. كل واحد سيثق في الآخر، وهذه الثقة وهذا الإيمان المشترك وهذا الصدق.. كل ذلك سيسقي جذور الحركة التي تغير أميركا اليوم كما غيرتها منذ نحو ستين سنة كلمات كينج: نحن آمنا.. نحن آمنا.. نحن آمنا.