هل تتغير الأفكار والاتجاهات نحو التنمية الإنسانية متأثرةً بمتطلبات وتداعيات جائحة كوفيد -19؟ نعم تغيرت كثيراً في فلسفتها (المبادئ والأفكار الأساسية) وفي أولوياتها وعلاقاتها ببعضها البعض، كما عززت كثيراً من الأفكار والاتجاهات التي كانت لا تجد قبولاً أو استماعاً كافياً بسبب مصالح ومؤسسات وأنظمة عمل سائدة. وبالطبع فقد تعرضت المنظومة السائدة في الأفكار والسياسات والإدارة والتنظيم الاجتماعي للأمم، لمراجعات كبرى أحدثت فيها تغيراً جوهرياً. ومن المؤكد أن الأمم التي ستكون قادرة على المواجهة والعبور إلى ما بعد كوفيد -19 هي التي أدركت بوضوح ما الذي يجب فعله وما الذي يجب التخلي عنه.
صحيح أن الأفكار والاقتراحات التي سادت لمواجهة الجائحة لم تكن جديدة، أو لم تكتشف في ظروف الجائحة، بل كانت أصواتاً واتجاهات قوية وفاعلة، لكنها لم تكن مؤثرةً في السياسات العامة للدول والمنظمات والمؤسسات الكبرى والمركزية، بل كانت أفكاراً ودعوات تدعو إليها مجموعات وأجيال ليست هي صاحبة القرار والتأثير الحاسم في إدارة الموارد والإنفاق العام وتصميم الاتجاهات والقرارات للمؤسسات والأفكار. والطبع فإن الجديد لا يولد من جديد، لكنه دائماً ينشأ من مراجعة وتطوير القديم، وما من فكرة أو سياسة إلا وتنشئ ضدَّها!
لقد تأكدت أهمية الوعي والثقافة كإطار تنظيمي، وإن لم يكن قانونياً أو مؤسسياً، لتفعيل مواجهة الوباء والحماية منه. ولم يكن لدى الأمم والمؤسسات الصحية والاجتماعية أداة تنظيمية فاعلة للعلاج والوقاية سوى وعي الأفراد والاتجاهات الصحيحة في السلوك وأسلوب الحياة، ولم يكن ممكناً إنجاح وتفعيل عمليات المواجهة وتطبيق السياسات الصحية من غير الوعي الكافي بضرورتها وأهميتها، لكن الثقافة بما هي وعي بالذات لا تعمل بسرعة ولا تنشئ استجابات فورية مثل القوانين والتشريعات على سبيل المثال، كما أنها لا تتشكل استجابة مباشرة للإرشاد والتوجيه والتدريب والتوعية.. بل ثمة فرق كبير وجوهري بين مقولتي الثقافة كحل وبين الحلول الثقافية، فالثقافة هي منظومة معقدة ومتراكمة من الاستجابات والتفاعلات مع الموارد والأعمال والتنشئة وعمليات التعليم والتنظيم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أما الحلول الثقافية بما هي الأفكار والإرشادات والأدلة وعمليات التوعية المباشرة فليست سوى جزء يسير من الثقافة والوعي، وهي الأقل تأثيراً وأهمية.
وقد صعد «الفرد» مستقلاً بذاته ليكون عنصراً أساسياً في الإدارة والتنمية، ولم تعد التشكلات والقيادات الاجتماعية (مثل البلدات والنقابات والجماعات والعشائر ومجموعات المصالح والطبقات الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات الدينية والإرشادية والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية.. إلخ) وسيطاً فاعلاً أو كافياً بين السلطات ومواطنيها كما كان الحال قبل سيادة الدولة المركزية وعلاقاتها وأنظمتها السياسية والاجتماعية. لكن أصبحت ثمة حاجة ملحة للتواصل المباشر بين الحكومات والمؤسسات التنظيمية للأمم وبين مواطني هذه الأمم باعتبارهم أفراداً وليس بالنظر إليهم كجماعات أو بلدات أو طبقات أو فئات.. فالفرد مستقلاً بسلوكه وأفكاره أصبح قادراً على حماية المنظومة الصحية والاجتماعية كما هو قادر على خرقها وإفشالها.
ومن هنا صعدت منظومة الشبكية والتواصل الاجتماعي الشامل على نحو حاسم وضروري لا يحتمل التأخير أو الخلل أو التقصير، فقد تحولت الشبكة إلى المرفق الأساسي والأعظم في تنظيم الأعمال والعلاقات بين السلطات ومواطنيها، وكذا الأسواق والمصالح والحياة اليومية والتعليم والتدريب. فالأمم اليوم، بكل مكوناتها ومستوياتها، تتجمع حول الشبكة لتسيير الحياة والأعمال الصغيرة والكبيرة والضرورية واليومية، مما يعني بالضرورة أن الشبكة كمرفق أساسي يجب أن تتحول إلى ملكية عامة وفاعلة وشاملة، بحيث يكون في مقدور كل إنسان الوصول إليها واستخدامها بسهولة وفاعلية. وباختصار فقد تحولت إلى أن تكون قلب المدن والمجتمعات والدول، أو الفضاء العام الذي يلتقي ويتفاهم ويعمل فيه جميع الناس بلا استثناء، وفي ذلك تنشأ (يجب أن تنشأ) منظومات جديدة في الصحة والتعليم والعمل والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي للأمم.