على الرغم من الخسائر الجسيمة التي نجمت عن حرب أسعار النفط قصيرة المدى، إلا أنها وضعت أسسا جديدة لطبيعة العلاقة ليس بين بلدان «أوبك+» فحسب، وإنما بين البلدان المصدرة للنفط بشكل عام، بما فيها الولايات المتحدة التي انضمت لأول مرة إلى سياسات تقييد الانتاج بعد أن تحولت مرة أخرى إلى دولة مصدرة للنفط.
السياسات السابقة في نطاق «أوبك» تحملت أوزارها أساساً دول مجلس التعاون الثلاث الأعضاء في المنظمة، وهي السعودية والإمارات والكويت، حيث استغل الأعضاء الآخرون للأسف سياسة الحرص الخليجي على مصالح البلدان المنتجة، فقاموا بخرق اتفاقيات تخفيض الإنتاج على مدى سنوات طويلة مستولين بذلك على بعض حصص دول المجلس في الأسواق الدولية، حيث استمر ذلك حتى بعد تكون التشكيل الجديد المسمى «أوبك+»، مما أفقد الدول الثلاث جزءاً من أسواقها.
ما بعد حرب الأسعار ونتيجة للخسائر الكبيرة التي مُنيت بها البلدان المصدرة دون استثناء وإغلاق حقول النفط الصخري الأميركي بسبب تدهور الأسعار ووصول سعر برميل برنت إلى أقل من 16 دولاراً للبرميل في شهر أبريل الماضي نزولاً من 60 دولاراً، تداعت البلدان من داخل وخارج «أوبك+» للاجتماع لوقف المزيد من الانهيار في أسواق النفط، التي كانت متأثرة بشدة مسبقاً بتداعيات فيروس كوفيد19.
أدى ذلك، كما هو معروف إلى الاتفاق بتخفيض الانتاج بمقدار 9.7 مليون في نطاق «أوبك+» و20 مليونا بانضمام بقية المنتجين من خارج هذا التجمع حتى شهر يوليو القادم، ودعما لهذا التوجه أعلنت الدول الخليجية الثلاث خفضاً طوعياً بمقدار 1.18 مليون برميل يومياً لسرعة سحب الفائض من السوق ودعم الأسعار، والتي تضاعفت منتصف الأسبوع الماضي ليصل سعر برميل برنت إلى 42 دولاراً للبرميل، وذلك قبل أن ينخفض إلى أقل من 40 بسبب تراجع الطلب والمضاربات لجني الأرباح.
هذه السياسات الخليجية الصادقة، بالإضافة إلى عودة روسيا ومعظم دول «أوبك+» للالتزام بالتخفيضات الجديدة، قابلته للأسف عمليات عدم التزام بحصص الإنتاج من قبل العراق وأنجولا وكازاخستان ونيجيريا، والتي تعرضت لضغوط في الاجتماع الأخير لتقييد إنتاجها، وهو ما وعدت به حتى لا تضطر الدول المنتجة للدخول في حرب أسعار جديدة ومكلفة.
ذلك يعني أن الأسس الجديدة لفترة ما بعد حرب الأسعار الأخيرة واضحة تماماً للجميع، فإما التزام تام أو لا التزام، وخصوصاً بعد انضمام دول جديدة ومهمة، كالولايات المتحدة للتخفيضات، وهو ما يشكل ضغوطاً هائلة على تلك الدول التي تقوم بعمليات الغش.
ترتب على ذلك إمكانية انتهاج مسارين أو استراتيجيتين لا ثالث لهما، فإما حرب أسعار، وهي تعني إنتاج أكثر وعائدات أقل، وإما اتفاقات تتيح إنتاج أقل وعائدات أكبر، لقد أضحى ذلك واضحاً تماماً لكافة البلدان النفطية، فالاستراتيجية الأولى تعني سرعة استنزاف ثروة ناضبة مع عائدات أقل، وبالتالي صعوبات وأزمات اقتصادية معقدة وخطيرة، في حين تتيح الاستراتيجية الأخرى إطالة عمر الثروات النفطية والحصول على عوائد تغطي معظم احتياجات بنود الموازنات السنوية وتمويل البرامج التنموية.
يبدو حتى الآن أن الاستراتيجية الثانية هي التي سيتم الالتزام بها لاستجابتها لمصالح كافة البلدان المنتجة للنفط، إلا أن ذلك لا يعني أنه لن تكون هناك عمليات التفاف وخرق للتخفيضات، مما يتطلب معالجتها بفضل قوة وتأثير القوى الرئيسية المتبنية للاتفاقيات الجديدة. وبالنسبة للأسعار، فإنها ستشهد تذبذبات، بعضها حاد، كما حدث نهاية الأسبوع الماضي عندما انخفضت الأسعار بأكثر من 9%، وذلك قبل أن تعاود الصعود مرة أخرى بداية الأسبوع الجاري لتلامس 40 دولاراً للبرميل، إذ تعود هذه التقلبات إلى استمرار المضاربات وتأثيرات جائحة كورونا، إلا أن المحافظة على الاتفاق الجديد ستضمن دون شك اتجاهاً تصاعدياً للأسعار على المدى المتوسط، حتى تصل إلى مستويات ما قبل الأزمة، وهو مكسب كبير ومهم لكافة البلدان المنتجة للنفط.
*مستشار وخبير اقتصادي