هناك ثلاث رؤى فلسفية تبين موقف اللغة العربية من العلم والسياسة، الأولى يمثلها زكي نجيب محمود، وتذهب إلى أن العربية في حاجة إلى ثورة، كي تخرج من عباءة البلاغة، والألفاظ المعجمية المهجورة، لتعبر عن الواقع وتواكب متطلبات العلم الحديث. والثانية لعثمان أمين، وترى أن اللغة العربية تعبر عن روح الأمة، والدفاع عنها هو دفاع عن الهوية العربية الإسلامية، وأنها لغة قوية ثرية متمكنة، مكتفية بذاتها، بارعة في مشتقاتها وصوتياتها وتعبيراتها المحكمة، وليست في حاجة إلى دعم خارجي. والرؤية الثالثة يمثلها حسن حنفي الذي يرى أن اللغة العربية يغلب عليها الطابعان الديني والتاريخي، وهي لغة صورية مجردة، يرفضها العصر، وتحتاج إلى تجديد جذري، بحيث تكون لغة إنسانية عقلية، قادرة على مخاطبة الأذهان، ومفتوحة لا قيود، بما يجعلها تقبل التغيير والتبديل في المفاهيم والمعاني، وتحوي مفردات دالة في الحس والمشاهدة والتجربة، وأن تكون لغة عربية وليست مستعربة.
هكذا، يستخلص د. مجدي الجزيري أستاذ الفلسفة في جامعة طنطا المصرية في دراساته، ثم ينطلق من هذا إلى انتقاد بعض المصطلحات المتداولة، لاسيما في مجال السياسة، والتي ينتجها الغرب، ويلقيها في طريقنا، فنلتقطها سريعاً، ودون تمعن، ونرددها بإخلاص، وفي غير وعي بما تؤديه من وظائف لصالح من أنتجها، وعلى حسابنا، مثل «دول الشمال»، و«دول الجنوب»، و«الغرب»، و«الشرق»، و«دول قوية»، و«دول ضعيفة»، و«دول غنية»، و«دول ضعيفة»، و«دول متقدمة»، و«دول متخلفة»، و«دول كبرى»، و«دول صغرى»، و«دول ناجحة»، و«دول فاشلة».
ورغم أن هذه المصطلحات لا تخلو من التعبير عن جانب من الحقيقة، فإنها لا تشمل الحقيقة كلها، في نظر الجزيري، لأنها لا تتضمن بواعث نشأتها، ولم تصدر بعد إقرار وتحديد من له حق صكها وصياغتها وتقديمها، ولم تصاحبها، بالطبع، مذكرة تفسيرية توضح ما يقف خلفها من مصالح سياسية واقتصادية، وما وراءها من رؤى فكرية ومعرفية وصور ذهنية نمطية، هي أحياناً بنت التاريخ بأحداثه، والأنثربولوجيا بتصوراتها، كما لم يشارك الكل في تحديد المؤشرات، أو المقاييس التي تم الاستناد إليها في سبيل الاطمئنان إلى استنتاجات من هذا القبيل.
هذا التصور أخذ بعداً أوسع في رؤية الجزيري لدور اللغة في تحديد وضع «الدولة القومية» في ظل «نظام دولي جديد»، حيث تحاول الدول الكبرى تبرير وصايتها وهيمنتها عبر مجموعة من الشعارات الأخلاقية التي ترمي إلى تكريس سلطانها، على حساب «الاحترام المتبادل» و«المصالح المشتركة» و«وحق تقرير المصير» و«الحل السلمي» و«الحد من التسلح»، التي هي في النهاية تركيبات لغوية مقابلة للنزوع إلى الهيمنة، لكنها لا تصمد غالباً في وجه نظيرتها التي تطلقها القوى المتحكمة في النظام الدولي.
وتلعب اللغة أيضاً دوراً في التلاعب الشديد الذي يكتنف بعض القضايا التي حازت توافقاً أكثر من تلك المصبوغة بالصراعات السياسية والتنافس الحاد. فمثلاً، يبدو مصطلح «حوار الحضارات» غارقاً في «الاستثمار السياسي» عبر التشكيلات اللغوية التي توزعت بين دعوتين متناقضتين، إلى «الحوار» أو«الصدام»، فالحوار يتطلب «التعددية» والتي تدفع بدورها أحياناً، بل واقعياً، إلى«الصدام».
ويمكن أن يكون هناك مصطلح واحد يتم التعبير عنه لغوياً بطرق مختلفة، تقف وراء كل طريقة فلسفة أو نسق فكري، رغم أن الناس يرددونه في تسليم تام، وكأنه قد تم الاتفاق عليه بشكل نهائي وقطعي. وبوسعنا أن نستخلص هذا من رؤية الجزيري لمفهوم «الثورة» في فلسفات متعددة. فهو يشرح تجلياته في نماذج مختلفة من الفكر الفلسفي، وكيف يقوم كل فيلسوف بجعل «الثورة» بعداً من أبعاد نظرته الذاتية، سواء كان يقبلها أو يرفضها، يؤديها أو يناهضها، رغم أنها في حقيقتها كثيراً ما تتجاوز هذه الأطر، أو القوالب المحدودة، التي يرمي كل فيلسوف إلى الإيهام بقدرته على إحكام قبضته عليه.
هكذا تبدو اللغة محدداً رئيسياً لا يمكن تجاهله في العلم والسياسة وغيرهما، ولا يجب أن نقتصر في نظرتنا إليها على أنها مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار والمواقف، إذ إنها في حد ذاتها موقف وفكرة، لا يمكن نكرانها.