هل ينجب الأدباء في معتزلاتهم أدباً كورونياً (أدب العزل)، قد يتصدر غداً المكتبات ليصبح «موجة»، أو «موضة» رائجة، تنتظر في نهاية المواسم أيها الأكثر مبيعاً، أو «الأشهر»، أو «الأبدع»، أو «الأحدث»؟ قرأنا وتابعنا أن شعراء ومؤلفين عرباً وأجانب قد ألهمهم الوباء (ما ألهمتهم ربات الشعر) بمساحاته التراجيدية، قصائد، أو مذكرات، أو يوميات وخواطر ومشاريع وروايات..
فكورونا لابدّ أن يبوح بمكنوناته إلى هؤلاء الدائبين الطامحين لاستغلاله، بل علمنا أن بعض دور النشر الفرنسية بدأت تتعاقد (سلفاً)، وتحت الطلب، مع كتّاب على وضع تجاربهم في مؤلفات جديدة. وهذا يعني أن يلبي الكُتاب «طلب» هذه الدور، ويكتبوا أدباً سباقاً، جاذباً اهتمام الزبائن والقرّاء. لكن، هذا النوع من الكتب بات يُكرّس «أدباً» منذ قرون، وإن بعناوين متعددة: «أدب السجون»، «أدب المصحات النفسية»، أو «الإقامات الجبرية». والانعزال الطوعي (التنسك، الوحدة..) وعندنا مئات الكتّاب والشعراء والفلاسفة الذين سطّروا «شهاداتهم» و«معاناتهم» وراء الجدران، وهي أصعب، وأقسى، وأخطر، بما لا يُقاس من «عزلة البيت» أو الغرفة.
بل إن كثيرين يرون أن اعتزال المنزل ترفٌ عند البعض. كما هو «عذاب» عند بعضهم الآخر، فجزءٌ من أهل الحجر وجد فيه ملاذاً ونعمة أكمل فيها بعض المشاريع الروائية وسواها، مما حالت ظروف الانشغال دون إنجازه.
ها هو الكاتب الفرنسي «ديديه ووكوان» يهتف فرحاً: «بفضل الحجر، يمكنني أن أحقق مشاريعي المتأخرة». لكن المسرحي «وجدي معوض» (فرنسي من أصل لبناني) درج على تسجيل خمس عشرة دقيقة من يومياته.. وبثها من موقعه الإلكتروني. وهناك - أيضاً- كتّاب بدأوا يُحَبِّرون يومياتهم لحظة بلحظة، منذ اليوم الأول للعزل، باعتبارها «أدباً لحظوياً». ولأنهم كتَّاب، فمن الطبيعي أن يعتبروا كل ما «يَبِيضُونه» أدباً.. وربما فتحاً مبيناً. وقد قرأنا في بعض الجرائد والصحف نماذج من هذه الاجتراحات النخبوية، ولا تعدو كونها كتابات متسرعة وسطحية. وهنا بيت القصيد، وهنا بات لزاماً أن نذكر أن القرن العشرين (وطبعاً ما قبله) عرف سيولاً من هذه الكتابات، وكثير منها أعمال أدبية تعد من الروائع. ونتذكر سولجنستين (والغولاغ) وغوغول و«يوميات مجنون»، ودوستويفسكي في مذكرات من القبو.. والشاعر المصري نجيب سرور، والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في معتقله الطويل، وأنطوان أرطو (في مصحاته النفسية)، والشاعرة الأميركية الكبيرة إميلي ديكنسون التي اعتزلت في منزلها منذ بلوغها سن السادسة عشرة، وحتى وفاتها في الستين.
وفي عام 1985 صدر «الحمّام» لفيليب توسان (العزل الطوعي)، ونتوقف عند سيد أدب العزل جورج بيريك الذي كان في ضيقه ومساحته المحدودة يسائل أشياءه، وتفاصيله، وأغراضه، وسكاكينه، وملاعقه، وكرسيه.. بلغة دلالية رائعة. فمن العزل و(الانعزال) استثمر كبار الكتاب نصوصاً اخترقت السائد، بمادتيها التسجيلية اليومية والإبداعية، وأسسوا طرقاً تعبيرية جديدة: كفرانز كافكا، وطوماس سافلير الذي يروي حياته على امتداد ثلاث سنوات بين الغرفة والغرفة، والمدخل والحمام، والمطبخ والشرفة.. ليصوغ بها تحفة أدبية.
يعني ذلك عدة أمور؛ أن هناك فارقاً بين تسجيل لحظات يومية متعاقبة، وبين كتابة شذرات تحفظ كعمل مقبل (روائي أو مسرحي)، وبين نصوص تجمع الشهادة الحية، وبين التأمل، وبين اختزان العزلة التجارب الشخصية غير المنفصلة عن العالم. هناك فارق بين كتابة «تحت الطلب» مرتبطة بالرواج، وركوب الموضة، والتسليع، وأخرى ذات هم إبداعي.
نصوص المناسبات تتلاشى مع مناسباتها، والنصوص للتجارة تنتهي بعد نشرها. نظن أن أدب كورونا، يجب أن يكون - على الأقل - على مستوى الحدث، وإلا فسنقع على ما يمكن تسميته «كَوْرَنة الأدب»!

*كاتب لبناني