يرى كثيرون من الزملاء بالجامعة، أن المسألة الثقافية (والدينية) لا تلعب دوراً مؤثراً، يقتضي ضرورة التعرض لها وسط التحديات السياسية والاستراتيجية، التي تعاني منها الدولة الوطنية العربية اليوم، ويستندون في ذلك إلى أن المثقفين ما عاد لهم دور محسوس ومؤثر في الرأي العام وفي سياسات الدول، وكذلك الأمر بالنسبة لرجال الدين والمؤسسات الدينية.
وتحاول المؤسسات الدينية منذ سنوات الدخول على خط الانتصار للدولة الوطنية، وتجاه تيارين كبيرين يتنكران لها، ثقافةً وإدارةً واسترتيجيات، أما الزملاء الأكاديميون الذين اعتزلوا أو عُزلوا فيتجاهلون أمراً شديد الأهمية، وهو الفراغ الذي خلّفه غيابهم ومَن الذي شغله، لأن الطبيعة تأبى الفراغ، فالمؤسسات الدينية يصارعُها على المجال الديني دُعاة واستراتيجيو الإسلام السياسي، والمثقفون المعتزلون أو المنعزلون يحل محلَّهم أهل اليسار الثقافي والسياسي، أو «المحافظون الجدد»، في المجال العربي!
والمعروف أن المحافظين الجدد بأميركا أيام ريغان وبوش الابن، هم في الأصل من اليسار الراديكالي، وعندما ارتدُّوا نحو اليمين انقسموا إلى تيارين: تيار تحالف مع الإنجيليين الجدد في اندفاعة لنشر الديمقراطية في العالم (غزو العراق وإفادة الصهاينة)، وتيار حمل شعار «أميركا أولاً»!
نعم، يتحالف اليوم «اليساريون الجدد» في المنطقة مع دُعاة وسياسيي الإسلام السياسي، وهم ينشرون كلاماً كثيراً حول ظلام الغرب وظلامياته، وأنه دمَّر العالم ويدمِّر نفسه الآن، ونقرأُ لهم كلاماً يشبه كلام سيد قطب والمودودي في ستينيات القرن الماضي، وإن بمصطلحات علمانية في ظاهرها فقط! وفي المجالين العربي والإسلامي، يتزعم الحملة على الدول الوطنية القائمة أهل الإسلام السياسي بحجج التغريب والولاء للسياسات الدولية، وتكون النتيجة المباشرة أن أردوغان أمير المؤمنين، كما يزعمون في سوريا وليبيا والسودان وتونس.
أما الإسلام السياسي الشيعي في البلاد العربية، فمرجعيته معروفة من ثلاثة عقود، وقبل بضعة أيام، قال أردوغان إنه ينسِّق مع إيران في تدخلاته بالبلدان العربية، وقبل أربعة أيام فقط قصف الطرفان معاً (أو بالتنسيق) مواقع كردية في العراق!
كيف يبرر اليساريون الجدد، المحافظون الجدد، وقوفهم مع «تقدميي» الإسلام السياسي؟ يبررونه بالعداء المشترك للإمبريالية والصهيونية، وإرادة التحرر من السيطرة الغربية، لكن أردوغان عنده علاقات جيدة بإسرائيل، وما خرج من عضويته بحلف الأطلسي، وهو يتلاعب الآن بين أميركا وروسيا، لتكون له مساحة في ليبيا والبحر المتوسط مثل المساحة التي اغتصبها في سوريا.
لا يهتم اليساريون وحملة شعارات الإسلام السياسي بكل هذه التفاصيل، بل ينكرونها، وقد ظلَّ اليساريون العرب لعقود يصرحون بالتحالف مع اليسار الصهيوني، لكنهم اليوم هم والمتغطّون بالرداء الأردوغاني يهاجمون رئيس رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى، لأنه قال بالتمييز بين اليهودية والصهيونية، فاليهودية دين إبراهيمي، والصهيونية أيديولوجيا سياسية وأتباعها منهم يهود ومنهم إنجيليون ومنهم غير ذلك.
ليس بين أيديولوجيي اليسار الجديد وأيديولوجيي «الإخوان» جامعٌ مشترك غير كراهية الدولة الوطنية العربية، والحملة عليها، ومشاركة السياسات الدولية والتركية والإيرانية في شرذمة المجتمعات وهدْم الدول، وعلة هذه الكراهية من جانب الإسلامويين الفشل في الوصول للسلطة والسيطرة، والسلطة عندهم هي الهدف الأوحد منذ كانوا، أما اليساريون الجدد بالذات، وبسبب ضآلتهم الفكرية والعددية، فكما كانوا دُعاة الضباط وأتباعهم بحججٍ مشابهة، هم اليوم مُناصرو الشمولية الإسلامويوية، ولا عاقل يدري كيف لا يرون سبيلاً لدعم الاستقرار والاستقلال في الدول العربية، التي ساعدوا على نشر الاضطراب فيها، ثم لا يجدون مانعاً من دعم التدخلين الإيراني والتركي لشرذمة المجتمعات وإضعاف الدول.
لا للشعوبية والشعبوية، ونعم للدولة الوطنية العربية.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية