غرست تركيا مخالبها في الشمال العراقي، بعد أن أعلنت عن بدء عملية عسكرية أطلقت عليها اسم «مخلب النسر»، فجر الاثنين الماضي (15 يونيو الجاري)، بحجه استهداف القواعد الخلفية لـ«حزب العمال الكردستاني» في بلدة قنديل ومنطقتي سنجار وحكروك، أعقبتها مباشرة عملية جوية أخرى، يوم الأربعاء 17 يونيو. كما نشرت قوات خاصة في بلدة «حفتنين». وبمبرر حربها ضد المقاتلين الأكراد، تعتزم تركيا بناء مزيد من القواعد العسكرية المؤقتة في شمال العراق، في الوقت الذي تحتفظ فيه بأكثر من 10 قواعد مؤقتة، موجودة بالفعل شمالي العراق. فماذا تفعل القوات التركية هناك غير انتهاك السيادة العراقية؟ وماذا تريد بالفعل؟
لقد قوّضت سياسة أردوغان استراتيجية «تصفير المشكلات»، التي وضعها مهندس السياسة التركية السابق أحمد داود أوغلو، قبل استقالته من منصب رئيس الوزراء في يونيو 2016، والتي قيل وقتها إنها تتلخّص في بناء تركيا لعلاقات إقليمية تقوم على الاحترام المتبادل، والحوار، والتعاون الاقتصادي، وحل الخلافات بالطرق السلمية، واستيعاب التنوع العرقي.. بينما الواقع أن السياسة التركية لا تزال تتبنى المفهوم الذي أسماه أوغلو نفسه «العثمانية الجديدة»، القائمة على التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، في محاولة لاستعادة فضاء الإمبراطورية العثمانية وبَعثه، بوصفه عمقاً استراتيجياً للدولة التركية الحديثة، ليس بناءً على حسابات المصالح الاستراتيجية فحسب، وإنما كذلك تأسيساً على اعتبارات تاريخية بأحقية التدخل في الأقاليم المجاورة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي، لإحياء روابط تاريخية بمنطقة الجوار الجغرافي، عبر عمليات عسكرية، ونشر جنودها خارج الحدود، وبناء قواعد عسكرية وعلاقات سياسية وثقافية، تستهدف جعل مناطق الجوار أكثر صلة بتركيا. وها هو الجيش التركي - اليوم - يقاتل على عدة جبهات، في سوريا والعراق وليبيا، وذلك لتحقيق طموحات أردوغان «العثمانية».
وليست هذه المرة الأولى التي تشن فيها القوات التركية هجوماً عسكرياً داخل الأراضي العراقية؛ فالتدخلات العسكرية التركية في هذه المنطقة مستمرة منذ عام 1990، حيث تستغل تركيا حالة الانقسام في العراق لإيجاد موطئ قدم لها هناك، ومن أجل ضم مدينة الموصل، رغم السعي الدائم من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة إلى إبعاد هذه المدينة عن أي حسابات سياسية بين البلدين. وليست المرة الأولى التي تستنكر فيها الحكومة العراقية التدخل التركي على استحياء، حيث تم استدعاء السفير التركي في بغداد وتسليمه مذكرة احتجاج، داعيةً أنقرة إلى «سحب قواتها ووقف عملياتها الاستفزازية». وبالمقابل، أكد السفير التركي في العراق أن بلاده ستواصل عملياتها العسكرية ضد «الإرهاب»، طالما لم يَطرد العراق «حزب العمال الكردستاني» من أراضيه.
ولدى تركيا - اليوم - مشروع إقليمي يمتد إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بعد أن حولت بوصلتها السياسية من الغرب إلى الشرق، مستندةً إلى «الأحقية التاريخية». وتحاول تركيا الأردوغانية إعادة صياغة الحقائق على الأرض وإعادة رسم الجغرافيا، بما يتواءم مع المخيلة السياسية للعثمانيين الجدد في أنقرة. فسياسة تركيا تجاه التطورات في العراق، وعمليات مخالبها العسكرية في شماله، ليست ردود أفعال لحماية الأمن التركي أو لملاحقة المعارضة الكردية المسلحة.. بل هي سياسة طويلة المدى للعبث بالحدود الجغرافية القائمة، وخلق واقع جديد يعيد كتابة التاريخ.