ينبغي انتظار نتائج الحوار الاستراتيجي الأميركي - العراقي للتعرّف على موقفٍ جديدٍ لبغداد، وحتى لواشنطن، من التوغل التركي المتزايد في الأراضي العراقية. فلا يمكن الدفاع عن «السيادة» كعنوان وخلفية للتفاهم على ضوابط للدور الأميركي في العراق، من دون التهيؤ أيضاً لوضع ضوابط للتدخلات التركية والإيرانية، خصوصاً أن انعكاساتها على العراق تختلف. فالوجود الأميركي أصبح في الواقع الراهن عامل تعزيز للدولة، من خلال فاعلية القوات المسلحة والأمنية وجهاز مكافحة الإرهاب، وعامل توازن بين مكوّنات المجتمع، وبين الدولة والجماعات المسلحة التي تتموّل من مواردها وتنازعها على مكانتها. ويمكن الدولة، متى أرادت، وفقاً لمصلحتها وبناءً على الاتفاقات، التفاهم مع الولايات المتحدة على تقليص قواتها أو سحبها.
الأمر مختلف مع الدولتين الأخريين الجارتين. لم يسبق أن أبرز أي مسؤول إيراني أو تركي أي وثيقة مبرمة مع العراق وتنص على أن بغداد طلبت رسمياً تدخلهما. استندت طهران إلى موافقة حكومات سابقة تولّت فيها المسؤولية أطرافٌ ارتبطت معها بعلاقات أيديولوجية دينية وسياسية تعود إلى أيام النظام السابق، وأنشأت ميليشيات وأجنحة عسكرية لها بإشراف إيراني. ولذلك تقول طهران في أي وقت إنها غير متدخّلة وليس لها وجود عسكري في العراق، وإنما هناك جماعات عراقية منخرطة في «خط المقاومة».
أما تركيا، فتوسّعت في الأعوام الأخيرة في تطبيق اتفاق 1983 مع النظام العراقي السابق الذي أجاز لها مطاردة مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» داخل الأراضي العراقية، إذ تجاوزت حدود الـ 15 كلم إلى أكثر من 40 كلم. وخلافاً لهذا الاتفاق أصبحت لها قواعد ثابتة، وبدأت لتوّها إقامة قواعد جديدة. ورغم تعايش حكومة إقليم كردستان مع التدخل التركي، انطلاقاً من كونها غير متوافقة مع «الكردستاني» على وجوده وممارساته سواء في جبل قنديل أو في سنجار، إلا أن أكراد الإقليم باتوا يعانون من توغّل الأتراك وإخلائهم 280 قرية حدودية وجعلها منطقة غير مأهولة فاصلة بينهم وبين «الكردستاني».
تخلل العمليات التركية الحالية في العراق قصف مدفعي من الحرس الثوري الإيراني على «وادي ألانا» وجبل «حاج عمران»، حيث توجد معسكرات لحزب «بيجاك» الكردي الإيراني. وعنى هذا التزامن أولاً وجود تناغم بين أنقرة وطهران، وثانياً محاولة تركيا فرض حقائق جديدة استباقاً لنتائج الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد. معلوم أن الخشية من طموحات الأكراد وأحزابهم المسلحة مسألة تجمع بين تركيا وإيران، لكن الإشكالية القائمة في العراق أن حكومة أربيل تلقي المسؤولية على عاتق الحكومة الاتحادية (بغداد) في حين أن التدخّلين التركي والإيراني يجريان في إقليم كردستان الذي لا يرغب في دخول مواجهة مع «الكردستاني» أو مع «بيجاك» ولا مع تركيا أو إيران، ولا يريحه عملياً تدخّل الحكومة الاتحادية في شأن «سيادي» يشمل أراضيه.
لا شك أن التدخّل الخارجي يجري على قاعدة هذه التعقيدات في الصيغة العراقية، غير أن حكومة بغداد باتت مدعوّة إلى الحسم، أولاً بمراجعة اتفاق 1983 الذي كانت له أسبابه وظروفه، وثانياً بالتعاون مع إقليم كردستان لمنع التنظيمات الكردية المسلحة من استخدام الأراضي العراقية كملاذات ونقطة انطلاق لعملياتها. وفي الحالين يمكن لبغداد الاستعانة بـ «الشريك» الأميركي لتسهيل التفاهم مع أنقرة، إذ أصبح مؤكّداً وملموساً أن ثمّة غطاء أميركياً للأدوار التركية من سوريا إلى العراق وليبيا.