لم يتوقف نقد النظام الرأسمالي منذ منتصف القرن التاسع عشر، نقد متفاوت في حدته يبلغ أعلى مستوياته عندما يتضمن توقع نهاية الرأسمالية. أطلق كارل ماركس الموجة الأولى في هذا النقد، في إطار تحليله لتطور الاجتماع الإنساني اعتماداً على منهج صراع الطبقات. فقد تصور أن هذا التطور الذي بدأ بالانتقال من نظام الرق إلى النظام الإقطاعي، سينتهي بالتحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية، فالشيوعية. آمن مئات الملايين في العالم عبر أجيال متوالية بفلسفة ماركس التي كانت نهاية الرأسمالية، ركناً ركيناً فيها. وأُقيمت نظم حكم متزايدة على أساس هذه الفلسفة، منذ استيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا عام 1917، وإقامة الاتحاد السوفييتي، ثم توسع نفوذه في أوروبا الشرقية والوسطى، والعالم. لكن تلك الفلسفة انتهت، ومعها من تبنَّوها أفراداً وأحزاباً وجماعات ونظم حكم، فيما لم تنته الرأسمالية. ومع ذلك، لم يكف خصومُها عن نقدها، ويسارع بعضهم إلى إعلان أن نهايتها تقترب، كلما حدثت أزمة اقتصادية في معاقلها الكبيرة.
وها هو نقد الرأسمالية، وتوقع بعض ناقديها قرب نهايتها، يُعاد إنتاجهما على أساس أن النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة ودول أوروبية غربية كبيرة ظهر ضعفه في مواجهة تفشي فيروس كورونا، ولم يتمكن من تجنب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عنه، أو احتوائها في مهدها، بل يذهب كثير منهم إلى أن العولمة الناتجة عن مصالح القوى المسيطرة على هذا النظام هي العامل الرئيس وراء انتشار الفيروس القاتل في أنحاء الكوكب.
غير أن أزمة كورونا ستنتهي، وستبقى الرأسمالية، ليس لأنها عصية على التغيير، أو لأنها نظام مثالي، ولكن لعدم وجود بديل عنها في أي مدى منظور، ولقدرتها على التجدد مما أوجد أشكالاً عدة للنظام الرأسمالي. وليس ثمة دليل على عدم وجود بديل عن هذا النظام حتى الآن مع شيوع مفهوم «ما بعد الرأسمالية» في أوساط قطاع يُعتد به ممن يتوقعون نهايتها. وعندما حاول بعضهم أن يحددوا ماهية هذا «المابعد»، قالوا إنه الاقتصاد المعرفي أو الرقمي. لكن عندما نتأمل طبيعة هذا الاقتصاد الجديد، نجد أنه أحد أشكال النظام الرأسمالي. فاقتصاد المعرفة يظل رأسمالياً من حيث إنه يقوم على المشروع الخاص، ويرتبط بتفاعلات السوق، ويزدهر كلما اتسع نطاق الحرية الاقتصادية وغيرها من الحريات، لاعتماده على الابتكار العقلي والإبداع الفكري والحافز الفردي.
كما أنه يمثل شكلاً جديداً للرأسمالية، لأنه لا يعتمد على أصول ثابتة مثل الأرض والمزرعة والمصنع والآلة والمواد الخام، ولا على رأس المال المالي بطبيعة الحال. اقتصاد المعرفة لا يحتاج إلى كل هذه الأصول الثابتة، أو قل إنه لا يحتاج إلا إلى أقل القليل منها، لأنه يرتبط بالعقل الذي يبتكر ويستخدم لغة الكمبيوتر، وتظهر نتائج إبداعه في أفكار تنبض في عقول المبدعين وتتحول إلى نبضات إلكترونية، بعيداً عن خطوط الإنتاج التقليدية. ولذا، يستطيع هذا الاقتصاد الاستمرار لفترة طويلة، على نحو يناقض توقعات نهاية الرأسمالية، كونه يعتمد على قوى ناعمة أكثر منها صلبة، ويمتلك قدرة على التطور والتقدم بلا حدود، حتى إذا لم يقدم حلولاً لأكبر مشاكل النظام الرأسمالي، وهي مشكلة التفاوت الاجتماعي التي ازدادت في كثير من دول العالم في العقود الأخيرة، وصارت في مقدمة الحجج التي يسوقها مَن يتوقعون نهاية الرأسمالية كلّما حدثت أزمة تتيح فرصة لإعادة إنتاج هذا التوقع.
والحال أن التفاوت الاجتماعي واضح في عالمنا، وتفاقُمُه لا يخفى على عين مُدقِّقة، وقليلاً ما نجد خلافاً على ذلك. لكن الخلاف يتركز على نتائج هذه الحالة بين مَن يرونها كارثة يمكن أن تُنتج عواقب وخيمة، ومَن يجدونها ظاهرة طبيعية تزداد حيناً وتقل حيناً آخر.
غير أن هذه المشكلة يمكن أن تُحل تدريجياً، إما نتيجة إجراءات تتخَذ لمواجهة صدمات مثل انتشار كورونا الذي فرض على حكومات أكبر الدول الرأسمالية التي يزداد فيها التفاوت الاجتماعي تخصيص موارد كبيرة لحماية الفقراء والضعفاء، أو بسبب تراجع احتمالات الاحتكار في اقتصاد المعرفة على المدى الطويل، رغم وجود «حيتان» كبيرة فيه الآن. فلا يستطيع أحد أن يحتكر الابتكار والإبداع. وفي إمكان الجميع استخدام التقنيات الرقمية لإنتاج أفكار جديدة تتحول إلى مشاريع لا تستمد قيمتها من أموال وفيرة، بل من هذه الأفكار التي هي بطبيعتها متغيرة ومتجددة، فضلاً عن أنها هي التي تنتج الأموال، وليس العكس.