لا يمكن للأدب أن يتخلف عن أداء دوره حيال جائحة كورونا، فهو فضولي وانفعالي بطبعه، كما أن أهله لا يمكنهم تفادي الآثار البعيدة والعميقة للوباء، فالأديب إنسان قلق وحائر وتائه كثيراً، وربما هو أكثر حساسية وضعفاً ورهافة وانفعالاً، بحكم توسله بالمشاعر، وقدرته على رؤية تفاصيل تسقط من أذهان العلماء والساسة والباحثين الاجتماعيين.
من المؤكد أننا نعيش الآن لحظة العلماء والأطباء بامتياز، فالناس يتعلقون بهم بحثاً عن نجاة من جائحة كورونا، لكن الأدب لا يستأذن أحداً، كي يأتي ويحل، ويفرض نفسه تباعاً، خاصة مع حيرة العلماء أنفسهم، وتمكن الوباء من قتل أطباء كبار، وتفاوت الخبرات مع الإصابات، نتيجة تعدد وتعقد الأعراض، وطرق العلاج أحياناً.
لكن أي أدب هذا الذي بوسعه متابعة ما يجري؟ كان هذا سؤالاً طلبت مني جامعة «ميسان» العراقية أن أجيب عليه ضمن ندوة عقدت الأحد الماضي عن بُعد بعنوان «الأدب في ظل الجوائح والأزمات»، فقلت إنه قد صار بمقدور كل شخص أن يتحدث عن تجربته مع الوباء، سواء في عزلته أو إصابته ورحلة تعافيه، عبر سرد بسيط، بلغة مقتصدة أو خالية من البلاغة، تتوسل بالحكاية أو التقرير، مثلما نرى بإفراط على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا تفعل الأغلبية الكاسحة من الأدباء سوى ما يفعله هؤلاء، لكن بلغة مختلفة، فقد وجدنا كثيرين يسجلون يومياتهم أو يكتبون تجربتهم دفقة واحدة بدءا من كتاب على أول الدرب وانتهاء بكبار منهم حائزون لجائزة نوبل في الآداب.
إن هناك من يقولون إنه لا يمكن أن تأتي كتابة مكتملة وقوية في ظل جريان الجائحة، ويشبه رأيهم هذا ما قيل عن أي كتابة عن ثورة لا تزال أحداثها سارية. وربما يصلح هذا الكلام جزئيا إن كان الأمر يتعلق بكتابة عمل كبير، رواية أو ملحمة، لكن لا يوجد ما يصادر على حق أي أديب في أن يعبر عن مشاعره بالطريقة التي تحلو له، كما أن انتظار اكتمال الحدث حتى يمكن الكتابة عنه يفقد الكاتب الانفعال القوي به، وهو مسألة مهمة في سبيل كتابة من لحم ودم.
إن الأدب على اختلاف ألوانه، وبتجليه الكلي، شعرا ونثرا، يأتي أحيانا متأخرا، لكنه يكون الأكثر عمقا، حيث لا يقتصر على العابر والظاهر إنما يرصد المشاعر، التي يعد تاريخها وذكاؤها جزءا مهما من حياتنا. ويكون الأدب أيضا الأكثر شمولا، إذ إن الكتابة السردية عند المتمكنين منها تكون عابرة للأنواع، حيث تبدو في ثنايا النص الأدبي خلفيات يمكن أن تنتمي إلى معارف عدة، لكنها تنطرح وتذوب فيه بشكل فني. ويبدو الأدب أيضا، الأكثر قدرة على البقاء، ومن ثم إفادة عموم الناس ممن يأتون في ما بعد. فما سينتهي إليه العلماء في تجربتهم هذه سينحصر في المعامل ومراكز الأبحاث، أما ما تجود به قرائح الأدباء، سيبقى متداولا على مستوى أوسع، ويكون أكثر وقعا في النفوس من الكتابة البحثية التي تصف الجائحة وآثارها سواء في التاريخ أو في علمي الاجتماع والنفس وغيرهما.
فنحن حين نقرأ «الطاعون» لكامو، و«الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، و«العمى» لساراماجو، و«إيبولا» لأمير تاج السر، على سبيل المثال لا الحصر، فإننا نعرف أكثر عن أزمنة الأوبئة، أكثر مما يمكن أن تمنحه إيانا الدراسات الطبية والاجتماعية.
إن ما على الأدباء الآن، ليس فقط صيد الحكايات وجمع المعلومات والخبرات من أجل كتابة لاحقة، إنما أيضا الانخراط في الحدث ليس كمرضى واقعيين أو محتملين إنما كقادة رأي بوسعهم أن يمنحوا الناس الأمل، ويعبرون عن مشاعرهم في الخوف والرجاء، ونقد استغلال الجائحة في إثراء البعض على حساب إفقار الكل، والوقوف إلى جانب الحركات المدافعة عن البيئة، وأخيرا التنبؤ بالآتي، عطفا على أن الأدب يسبق العلم بقرن على الأقل، ومن ثم يمكنه تخيل الوباء القادم، والتحذير منه، سواء بسبب خلل في البيئة، بفعل الإنسان، أو بفعله أيضا عبر إطلاق حرب بيولوجية ممقوتة.